Author

الاقتصاد العالمي والتغيرات الكبرى 

|

 
هناك شبه إجماع من خلال قراءة معظم التقارير الاقتصادية الصادرة عن مؤسسات مرموقة بأن تداعيات انتشار فيروس كورونا قد تمتد إلى أعوام، لكن من المهم الحذر عند قراءة هذه التقارير بسبب عمومية كلمة آثار هنا، فالقراءة المستعجلة لهذه التقارير ربما تقود إلى اليأس بشأن القرارات الاقتصادية للأعوام المقبلة. وكما ذكرت وكالة "بلومبيرج" للأنباء في تقرير نشرته أنه بمقياس إجمالي الناتج المحلي، يمكن القول إن الاقتصاد العالمي يمضي بصورة جيدة في طريق التعافي من التباطؤ الذي تحمل تداعياته سكان العالم أجمع تقريبا، لكن هذه النبرة من التفاؤل تعود لتختبئ خلف التحذير من أن التغيرات الكبرى في الاقتصاد العالمي ما زالت في بدايتها.

من وجهة النظر هذه يأتي التفاؤل دائما من رؤية العودة إلى النمو الاقتصادي القريبة والمتوقعة بقوة، وذلك لأسباب عدة أهمها اندفاع الحكومات نحو دعم الأنشطة الاقتصادية من أجل الحفاظ على الوظائف وأيضا قوة الطلب، وتوسع سياسات التيسير الكمي، لتشمل شراء سندات الشركات إلى جانب السندات الحكومية بهدف تعزيز الأداء الاقتصادي، كما أن أسعار الفائدة لم تزل شديدة الانخفاض وقد تستمر كذلك لفترة. وهناك إجماع على أن الحكومات لديها مجال أكبر للإنفاق في عالم منخفض التضخم، كما يمكن لهذه الحكومات استخدام السياسة المالية بشكل أكثر استباقية لدفع اقتصاداتها إلى النمو، وهذا أطلق العنان لجنون المضاربات في الأسواق، وكل هذا يدعم النمو الاقتصادي العالمي خاصة مع انتشار اللقاحات والانتهاء من سياسات الإغلاق الكبير التي عمت كثيرا من دول أوروبا، وهي التي أثرت في الطلب الكلي بشكل عنيف.

لكن مجرد العودة إلى النمو الاقتصادي لا يعني أن الآثار والتداعيات الاقتصادية للأحداث التي عمت الاقتصاد العالمي بسبب الفيروس قد ولت، بل الحقيقة أنها لم تزل غير معلومة بشكل تام، وأفرزت الأحداث حضورا واسعا للأنظمة الآلية والذكاء الاصطناعي التي استحوذت فعليا على وظائف عمال المصانع والخدمات، كما أفرزت الأحداث إمكانية عمل الإداريين من منازلهم ما يخفف الأعباء الاقتصادية المترتبة على حضورهم للعمل.

فمثلا شهدت الأشهر الماضية تغيرات هيكلية في قطاعات الملابس مثلا نظرا إلى انخفاض الطلب بشدة على ملابس العمل الرسمية، كما واجه القطاع العقاري تغيرات ناتجة عن انخفاض واسع النطاق في الطلب على المكاتب الإدارية، وهذه التغيرات سواء في دخول الآلة بقوة، أو انحسار دور الإنسان أدت إلى تغيرات ضخمة في شكل المصانع وبالتالي الأفكار التي كانت سائدة بشأن نقل المصانع إلى المناطق الأكثر كثافة بالعمال، وأفرزت تغيرا في شكل وتمركز سلاسل الإمداد، وهذا من شأنه أن يزيد التباين في الدخول بين الدول بعضها بعضا وداخل الدولة نفسها.

من هذا المنطلق ستلعب الحكومات دورا أكبر في حياة المواطنين، لمعالجة الظواهر المتراكمة الناتجة عن هذه الظروف فستضطر الحكومات إلى إنفاق مزيد من الأموال ما يجعلها تقترض أكثر ليرتفع مستوى العجز والدين العام. وهنا يحذر البنك الدولي من ظهور جيل جديد من الفقراء وفوضى في سوق الديون، ويقول صندوق النقد الدولي إن الدول النامية تواجه خطر العودة إلى الخلف لمدة عشرة أعوام على الأقل بسبب تداعيات الجائحة.

ووفقا لتقرير صادر عن شركة ماكينزي، فهناك بالفعل نقاش حول المدة التي يمكن أن تستمر فيها الدول في الإنفاق الحكومي الكبير، ومتى يتعين على دافعي الضرائب بدء سداد هذه الفاتورة، وفي تقارير عالمية أخرى تذهب بعيدا جدا لتقول إن الحكومة الكبيرة قد تعود إلى الظهور حيث تعاد كتابة العقد الاجتماعي بين المجتمع والدولة بسرعة.

إذن لا مفر من مواجهة التداعيات وقبول التغيرات الهيكلية، فالقوة الاقتصادية الحرة ستأخذ مجراها كما كانت دوما، فهناك دراسات تشير إلى أنه يجب التوقف فورا عن دعم الشركات فالنتائج تظهر ارتفاع مستويات ديون الشركات في جميع أنحاء العالم المتقدم، حيث يقدر بنك التسويات الدولية أن الشركات غير المالية اقترضت 3.36 تريليون دولار في النصف الأول من عام 2020، ومع انخفاض الإيرادات في عديد من الصناعات فإن الظروف مهيأة لأزمة عجز كبير عن سداد الديون بالنسبة إلى الشركات وظهور ما يسمى "شركات زومبي" لا يمكنها البقاء في السوق الحرة ولا تستطيع مواصلة عملها إلا بمساعدة الدولة، ما يجعل الاقتصاد بأكمله أقل إنتاجية، وفي ظروف كهذه فإن القرارات الصعبة تواجه الاقتصاد العالمي ولم تزل أمام الجميع.

إنشرها