Author

«بريكست» .. اتفاق بشروط أوروبية

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"اتفاق "بريكست" أسس لفصل جديد من علاقتنا ببريطانيا التي ستبقى شريكا مهما"
أنجيلا ميركل، مستشارة ألمانيا
مع التوقيع التاريخي على اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست"، انطلقت مرحلة لا تقل تعقيدا عن تلك التي شهدت مفاوضات متعثرة، اقتربت من الانهيار بين الطرفين. ولا يمكن تحييد الأثر الذي تركه فوز جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة على هذه المفاوضات. ويمكن الاعتقاد بأنه لولا هذا الفوز، لتمسك بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني بمواقفه المتشددة مع الأوروبيين، ولا سيما أن دونالد ترمب الرئيس الأمريكي طلب صراحة من لندن الخروج من الاتحاد الأوروبي حتى بلا اتفاق، ووعد باتفاق بينها وبين بلاده يعوض الخسائر الناجمة عن "بريكست". كان جونسون مرتاحا من موقف ترمب وعده دعما كبيرا له، إلا أن بايدن قلب الطاولة، وأعلن هو الآخر صراحة، ألا تحلم بريطانيا باتفاق تجاري مع واشنطن، إذا لم تتوصل لاتفاقية واضحة مع الاتحاد الأوروبي.
تم التوقيع على الاتفاق أخيرا، وبدا واضحا أن الأطراف المعنية نفسها كانت متفاجئة، لأنها في الأيام التي سبقت هذا التوقيع، كانت تعد نفسها لخروج بريطاني دون اتفاق، ينشر الفوضى على جانب القنال الإنجليزي. لكن الأمور لم تنته عند هذا الحد. فكثير من الاتفاقات عبر التاريخ كانت تصطدم بآليات التنفيذ، إضافة طبعا إلى تفسيرات مطاطة من قبل أطرافها. وفي الحالة الأوروبية - البريطانية تبقى الأمور أكثر تعقيدا مما قد تبدو للوهلة الأولى. ولهذا السبب، تم الاتفاق على تشكيل هيئة من الجانبين لفض النزاعات، علما بأن هذه الهيئة ليست واضحة المعالم، باعتراف المراقبين لهذا الحدث التاريخي. دون أن ننسى المقولة الشهيرة: إن "الشيطان يكمن في التفاصيل". والتفاصيل هنا لا حدود لها، تشكلت في الوقائع عبر عقود من عضوية بريطانيا في الكتلة الأوروبية.
اتفاق "بريكست" تحقق، لكن بالشروط الأوروبية. فلم يكن أمام بريطانيا مساحة واسعة للمناورة، وتراجعت عن كثير من الخطوط الحمراء التي وضعتها منذ اليوم الأول لبدء المفاوضات. فالتكتل الأوروبي يملك في النهاية الأدوات الأكثر قوة واستدامة، فضلا عن أن المملكة المتحدة تعاني أصلا خلافات داخلية عميقة حول "بريكست" برمته تقلق حكومتها، وإن كانت تتمتع بأغلبية برلمانية مريحة، إلا أنها تواجه انقسامات بلغت حدا أن هددت اسكتلندا بالعمل على الانفصال عن المملكة المتحدة، لأن سكان هذه المقاطعة المهمة صوتوا بأغلبيتهم إلى جانب بقاء بلادهم ضمن الاتحاد الأوروبي. فضلا عن المسألة الإيرلندية التي لها روابطها الأوروبية والأمريكية أيضا. ولذلك اضطرت لندن لكسر عدد من الخطوط الحمراء، ما أدى إلى هجوم عنيف من أنصار "بريكست" أنفسهم.
الانتصار الذي يمكن ملاحظته في الاتفاق البريطاني - الأوروبي أن المملكة المتحدة ستتمتع برسوم صفرية على بضائعها المصدرة للكتلة الأوروبية والعكس صحيح. وهذا يعني أن ما تم التوصل إليه ليس أكثر من اتفاق تجاري يشبه ذاك القائم بين كندا وأوروبا. فحتى السياسة الخارجية صارت خاصة ببريطانيا ولا دخل للاتحاد الأوروبي فيها. والمملكة المتحدة لن تمتلك اعتبارا من يوم الجمعة المقبل حق الدخول الحر للنظام المالي الأوروبي، وهي بالطبع خارج الاتحاد الجمركي، ما يعني أنها غير مغطاة بالإعفاءات الجمركية. ورغم امتياز الرسوم الصفرية على الصادرات البريطانية، إلا أن الأعمال التجارية ستواجه سلسلة من القيود الجديدة على الواردات والصادرات. ومع اعتراف الاتفاق بخطط ما يسمى بـ "التاجر الموثوق" التي من شأنها تخفيف البيروقراطية على الجانبين، إلا أنه ليس واضحا بعد إلى أي حد يمكن تطبيق ذلك.
باختصار ينص الاتفاق على إنشاء سوقين بفضاءين تنظيميين وقانونين منفصلين، مع بعض الامتيازات الأخرى التي ظلت باقية، مثل التعاون الأمني، الذي يمكن تعليقه في حال حدثت انتهاكات من جانب بريطانيا. ومشاركة المعلومات الخاصة بالحمض النووي والبصمات ومعلومات المسافرين، والتعاون عبر الشرطة الأوروبية "يوروبول". ولعل من أهم الفوائد الناتجة عن اتفاق "بريكست" بالنسبة لبريطانيا أن انكماش اقتصادها الوطني سيكون أقل مما سيكون عليه في حال خرجت من الاتحاد بلا اتفاق. وهذه نقطة مهمة جدا، ولا سيما في ظل الانكماش الحاصل فعلا بسبب تفشي وباء كورونا المستجد والسلالة البريطانية الجديدة له. بالطبع هناك كثير من النقاط المحورية المهمة في الاتفاق المشار إليه، إلا أنها لن تكون واضحة إلا في ساحة التنفيذ العملي له. وهنا يكمن بعض المخاطر، خصوصا في ظل وجود حكومة بريطانية ليست صديقة بما يكفي للاتحاد الأوروبي.
لا شك أن اتفاق بريكست شكل لحظة فارقة في تاريخ أوروبا ككل. لم يكن أحد يتوقع حتى عام 2016 خروج دولة عضو من الاتحاد الأوروبي، فكيف الحال بدول محورية كالمملكة المتحدة؟ ولأن الأمر كذلك يتحدث الأوروبيون ومعهم البريطانيون الذين لا يجدون أنفسهم إلا ضمن دائرة هذا الاتحاد عن آمالهم بعودة هوية الكتلة الأوروبية إلى المملكة المتحدة. بالطبع هذه آمال لا يمكن أن تتحقق قبل أعوام من غربة بريطانيا، وتبدل المزاج الشعبي فيها.
إنشرها