Author

ميزانية حماية الاقتصاد والمجتمع واستعادة التعافي والنمو

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
تحملت الميزانية العامة للدولة خلال العام المالي الجاري واحدة من أكبر وأعظم مسؤولياتها منذ عدة عقود زمنية مضت، وستمضي بوتيرتها العالية نفسها من الجهود وتسخير الموارد خلال العام المقبل على أقل تقدير إذا لم تتطلب الحال استمرارها حتى العام المالي الذي يليه، ففي الوقت الذي التزمت فيه بالشفافية والحوكمة والتوازن المالي وترشيد الإنفاق، اندفعت تحت ضغوط تداعيات تفشي الجائحة العالمية لفيروس كورونا كوفيد - 19 نحو توفير الدعم والتحفيز اللازمين للاقتصاد الوطني عموما، والقطاع الخاص أفرادا ومستثمرين ومنشآت خصوصا، ووضعت في سلم أولوياتها توفير أعلى درجات الحماية والرعاية الصحية للمواطنين والمقيمين على حد سواء، وخرجت من كل ذلك بسيطرة مثالية على مختلف المتغيرات، حفظت توازنها والتزامها بضوابط ومعايير أدائها المالي المرتبط بتحقيق مستهدفات برنامجها المالي ورؤية المملكة 2030، بدءا من السيطرة على العجز المالي والدين العام، مرورا بتوفير الحماية اللازمة لجميع أفراد المجتمع ورعايته صحيا، وصولا إلى الدفع بتعافي الاقتصاد الوطني وإعادته إلى طريق النمو المستدام.
عكست الميزانية العامة للدولة إضافة إلى التزامها بالاستقرار المالي اللازم لتحقيق النمو الاقتصادي المستدام، وبما تضمنته رؤية المملكة 2030 من برامج وإصلاحات هيكلية واقتصادية ومالية عديدة، أؤكد أنها عكست التزاما بالغ الأهمية طوال الفترة الزمنية لتفشي الجائحة العالمية لفيروس كورونا كوفيد - 19 بتأمين المتطلبات المالية اللازمة والكافية، للوفاء بأهداف المحافظة على صحة المواطنين والمقيمين على حد سواء، كأولوية قصوى اعتلت سلم أولوياتها ومسؤولياتها، ولهذا قامت بمراجعة عدد من برامج الإنفاق الحكومي، وقامت بناء على ذلك بإعادة ترتيب أولويات وأوجه الإنفاق الحكومي، وتم تنفيذ البرامج والمبادرات الهادفة إلى تعزيز منظومة الدعم والإعانات الاجتماعية اللازمة، والخدمات الأساسية، وتمكين ودعم القطاع الخاص عموما، والمنشآت الصغيرة والمتوسطة خصوصا، وشملت تلك البرامج والمبادرات والحزم التحفيزية دعم كل من الأفراد والشركات والمستثمرين، وتمثلت تلك المنظومة من الدعم والتحفيز في تخصيص مخصصات مالية، وتقديم التسهيلات التمويلية اللازمة، إضافة إلى حزمة واسعة ومتنوعة من الاستثناءات والإعفاءات المالية لمصلحة الأجهزة الحكومية على الجهات المستفيدة، وجاء تنفيذ تلك الجهود وترجمتها على أرض الواقع ضمن منظومة حكومية متكاملة، استهدفت في مجملها تخفيف أكبر قدر ممكن من الآثار الناتجة عن تفشي الجائحة العالمية الراهنة.
وبالتزامن مع الالتزام التام بمسار المضي قدما على الطريق الاستراتيجي للإصلاحات الهيكلية والبرامج التنفيذية التطويرية التي تضمنتها رؤية المملكة 2030، ترجمت الميزانية العامة للدولة مسؤولياتها تجاه تلك الأهداف الاستراتيجية، وركزت بمزيد من الاهتمام خلال الفترة الراهنة بالقطاع الخاص للمحافظة على مساهمته في الاقتصاد الوطني، والتقدم به نحو المستهدفات التي حددتها له رؤية المملكة 2030، وصولا بمساهمته إلى ما لا يقل عن 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية فترة الرؤية.
وهو الأمر المحوري الذي تم التأكيد عليه في توجهات السياسة المالية لميزانية العام المقبل، وتسخير الجهود المتكاملة عليه بالاعتماد على عديد من المحاور، كان من أهمها وأبرزها: مواجهة التحديات المالية والاقتصادية الراهنة والمتوقعة بهدف المحافظة على المركز المالي للدولة، والمحافظة على مكتسبات النمو الاقتصادي التي تحققت خلال فترة ما قبل تفشي الجائحة العالمية لفيروس كورونا كوفيد - 19، وتمكين الجهود الحكومية للعودة إلى مسار النمو والتعافي الذي تحقق قبل الجائحة العالمية، إضافة إلى توجيه الإنفاق الحكومي وتركيزه على القطاعات ذات الأولوية والعائد الاقتصادي الأعلى، والعمل وفق منظومة متكاملة على استراتيجيات متعددة، تستهدف تعزيز استقرار الإنفاق الحكومي، مع مواصلة الصرف على برامج تحقيق الرؤية والمشاريع التنموية الكبرى، والمحافظة على استمرار الصرف المالي اللازم على برامج منظومة الدعم والإعانات الاجتماعية.
أفضت تلك الجهود المتوازنة رغم استمرار آثار الجائحة العالمية محليا وعالميا، إلى إحكام السيطرة على كل من العجز والدين العام، حيث عملت السياسة المالية بتوازن ملموس الأثر على مستوى تمويل العجز بتمويله بنسبة أكبر بالاعتماد على السوق المحلية للدين، إضافة إلى تمويله بجزء محدود جدا من الاحتياطيات الحكومية التي وفرت للدولة مرونة عالية جدا أمام مختلف خياراتها المتاحة تمويليا، وهو أيضا ما مكنها من مواجهة تداعيات الجائحة العالمية بمزيد من الثبات والاستقرار رغم ضراوة تداعياتها المالية والاقتصادية الكبيرة، كما طغى على أداء أغلب الاقتصادات حول العالم، وهو ما وفر للمملكة بحمد الله لأن تواجه تلك التداعيات من منطلق قوة لا ضعف، وتوافر لديها مساندة كبيرة من ثمار الإصلاحات الهيكلية التي نفذتها خلال الأعوام القليلة الماضية، وفق رؤية شاملة واضحة الملامح استهدفت تنويع قاعدة إنتاج الاقتصاد الوطني، وضمان عدم تأثر الخطط التنموية بتقلبات أسواق النفط، وتعزيز دور القطاع الخاص في المنظومة الاقتصادية الهادفة إلى تنويع الاقتصاد، وإتاحة مزيد من الفرص الاستثمارية أمامه، ومشاركته في مشاريع البنية التحتية بما في ذلك الاستثمار في التقنية، ليكون المحرك الرئيس للنمو الاقتصادي، وهو ما كان له الأثر الإيجابي إبان تفشي الجائحة العالمية، وأسهم بدوره في الاستجابة السريعة نتيجة لتلك الإصلاحات طوال الأعوام الماضية.
ختاما: يمكن التأكيد أن السياسة المالية قد نجحت بدرجة كبيرة خلال الفترة في تحقيق التوازن اللازم بين عديد من الأهداف المتعارضة -المحافظة على نمو واستقرار الاقتصاد من جانب، ومن جانب آخر إحكام السيطرة على العجز المالي والدين العام-، وهي المهمة الأكثر صعوبة خاصة في ظل مثل الأوضاع الاقتصادية الراهنة غير المواتية، كما شهدته ولا تزال تعانيه أغلب الاقتصادات والحكومات حول العالم، وما ترتب عليه من ارتفاع قياسي في حجم المديونيات على كثير من الحكومات إلى مستويات عالية جدا لم يسبق لها مثيل، وهو الأمر الذي نجحت في مضماره الصعب السياسة المالية لدينا بالنأي عنه بدرجة كبيرة، وتجنبت بفضل الحوكمة والشفافية الوقوع في مخاطر طويلة الأجل، والعمل وفق برامج صارمة تتحكم بمستويات العجز المالي والدين العام وألا يخرج عن السيطرة، ودون التأخر في الوقت ذاته عن تلبية احتياجات الاقتصاد الوطني والمجتمع.
إنشرها