Author

التحويلات المالية من سيئ إلى أسوأ

|
كاتب اقتصادي [email protected]
«سنعمل على تمديد برنامج تجميد الديون المستحقة على الدول الأشد فقرا»
كريستالينا جورجييفا - مدير عام صندوق النقد الدولي
في زحمة الهموم الاقتصادية التي جلبتها أزمة تفشي وباء كورونا المستجد عالميا، تبرز مشكلة تراجع حجم التحويلات المالية للعاملين في الخارج إلى دولهم الأصلية. هذه المسألة حضرت على الساحة منذ أن بدأت الاقتصادات العالمية بالإغلاق لمحاصرة الوباء، حتى صارت ملفا مفتوحا في كل الأوقات على ساحة الهيئات والمنظمات الدولية، وفي مقدمتها "مجموعة العشرين". وهذا النوع من التحويلات، يشكل في الواقع رافدا رئيسا للاقتصادات في الدول الفقيرة، خصوصا تلك التي توصف بالأشد فقرا. وأسهمت طوال العقود الماضية في دعم حراك هذه الاقتصادات، بما في ذلك مشاريع التنمية الطموحة في أغلب الدول المعنية، إلى جانب طبعا المساهمات الدولية التي دخلت قبل عقدين من الزمن ضمن المشاريع الإنمائية التابعة للأمم المتحدة، وحققت قفزات نوعية بالفعل.
اليوم صار الأمر مختلفا بعض الشيء، خصوصا في ظل الفوضى الاقتصادية العالمية التي نشرها الوباء. فرغم الانفراج الذي حدث الصيف الماضي، وإقدام أغلب الدول على إعادة تحريك اقتصاداتها، إلا أن الموجة الثانية من كورونا نالت من النمو المرحلي الطارئ الذي شهده الاقتصاد العالمي. يضاف إلى ذلك سيادة حالة عدم اليقين دوليا، ولا سيما التأخر في حسم مصير هذا الوباء نهائيا. الاقتصادات حول العالم كبلت بمخططات إنقاذ تاريخية واسعة النطاق، حتى إن بعض الحكومات في الدول المانحة والمتقدمة، فضلت التأميم الكامل لمؤسسات بعينها، بل ضحت بشركات عبر تركها تخرج من السوق إلى الأبد. فضلا عن برامج تسديد الرواتب للموظفين والعاملين في القطاعين العام والخاص، وضخ الأموال في مؤسسات الرعاية الاجتماعية، وبالطبع الصحية. فضلا عن الأعباء المالية الناجمة عن قروض الإنقاذ المعفاة من الفوائد، وارتفاع معدلات القروض المعدومة.
كل هذا، قلص بالضرورة قيمة التحويلات المالية الخارجة من هذه الدول إلى الدول النامية والفقيرة، ونقلها إلى مستويات متدنية غير مسبوقة. فالتحويلات الدولية للدول النامية شكلت في العقد الماضي ما يقرب من ثلث عائدات التصدير، وفق المؤسسات الدولية ذات الصلة. بل كانت أكثر مرتين من تدفقات رؤوس الأموال الخاصة، وما يقارب عشر مرات من تدفقات الأموال الرسمية، وأكثر 12 مرة من التحويلات الرسمية في الأعوام العشرة الماضية. وتتطابق النتائج التي توصلت إليها مؤسسات مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، مع هذه المعطيات المحورية. كانت الدول النامية ولا تزال تتعاطى مع التحويلات المالية الخاصة إلى الدول الفقيرة والأشد فقرا، كقطاع أساسي ليس فقط لتسيير شؤون اقتصاداتها، بل لدعم مباشر لمشاريع التنمية المستدامة فيها.
كل التوقعات الرصينة "من بينها تلك الصادرة عن البنك الدولي" تشير حاليا، إلى أن التحويلات التي يرسلها المهاجرون والعاملون المؤقتون إلى دولهم، ستتراجع بنسبة 14 في المائة العام المقبل، مقارنة بما كانت عليه في العام الماضي. وبحسب التوقعات نفسها، فإن التدفقات المالية للعاملين في الخارج إلى الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، ستنخفض 7 في المائة لتصل إلى 508 مليارات دولار في العام الجاري، وستتراجع بمعدل 7.5 في المائة إلى 470 مليار دولار في العام المقبل. هذا مرتبط بصورة مباشرة، بضعف معدلات النمو الاقتصادي في الدول التي تستضيف العمالة المختلفة، وتراجع أسعار النفط، وانخفاض قيمة عملات الدول المرسلة للتحويلات مقابل الدولار، بما في ذلك تحول نسبة متعاظمة من هؤلاء العاملين إلى عاطلين عن العمل، أو متوقفين عنه بسبب الإغلاقات المتكررة للاقتصادات في هذا البلد أو ذاك.
ولا تبدو الصورة براقة في هذا المجال في المستقبل المنظور على الأقل. فتراجع التحويلات يشمل كل مصادرها الدولية دون استثناء. صحيح أن مستوى الانخفاض يختلف بين مصدر وآخر، إلا أن التراجعات كبيرة ومستمرة، خصوصا المنطقة الأوروبية التي يتوقع تراجع التحويلات منها بنسبة 16 في المائة عامي 2020 و2021. ولأن الصورة قاتمة فعلا في هذا الميدان الحيوي بالنسبة للدول النامية بشكل عام، تتحرك الهيئات والمنظمات المعنية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وكانت قرارات مهمة قد صدرت عن قمة "مجموعة العشرين" الطارئة التي عقدت برعاية المملكة، خففت بعض الشيء من الضغوط الناجمة عن الأزمة الراهنة على الاقتصادات النامية المحتاجة إلى التدفقات المالية المختلفة. فحتى بعض الدول المتقدمة وأولاها بريطانيا، قررت خفض مساهماتها المالية التنموية للدول الفقيرة.
التحويلات المالية إلى الاقتصادات النامية والفقيرة، تبقى في النهاية محورا رئيسا للتنمية فيها، ولا تقل أهمية في تأثيرها عن قطاعات، مثل الصناعة والتجارة والخدمات وغيرها. وهي ببساطة تمثل شريان الحياة، وتساعد بصورة مباشرة على تنمية رأس المال البشري. دون أن ننسى، أن توقعات البنك الدولي تشير إلى تراجع هذه التحويلات بنسبة 20 في المائة في العام الجاري الذي لم ينته بعد، خصوصا أنه العام الذي شهد أوج الأزمة الاقتصادية الناجمة عن جائحة عالمية لم يتوقعها أحد، ولم يتمكن العالم بعد من إعلان السيطرة عليها نهائيا.
إنشرها