Author

الفقر ينمو في كل مكان

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"الأزمة الاقتصادية الراهنة تحقق أكبر أضرار لمن كان بالفعل الأكثر ضعفا"
كريستالينا جورجييفا، مدير عام صندوق النقد الدولي
تتجدد آفاق الفقر على الساحة العالمية، كلما تعمقت الأزمة الاقتصادية الراهنة الناجمة عن تفشي وباء كورونا المستجد. فالركود الذي وصف بالأعمق منذ 80 عاما، يدفع مئات الآلاف من البشر إلى دائرة الفقر، رغم أن الأعوام التي سبقت كورونا شهدت تقدما ملحوظا على صعيد الحد من هذه الآفة، حتى إن أهداف الألفية التي أطلقتها وعملت عليها الأمم المتحدة بمؤسساتها المختلفة، حققت نجاحات لافتة أيضا، نتيجة النمو الاقتصادي العالمي، ولا سيما على ساحة الدول النامية، وتلك التي توصف بالأشد فقرا. يضاف إلى ذلك تزايد الالتزام بالمشاريع الخاصة في التنمية عموما، وتعاظم التعاون الدولي في هذا المجال. فضلا عن التسهيلات التي منحتها الدول المتقدمة للدول النامية على صعيد التجارة والخدمات حتى التصنيع. كانت الأدوات قوية، ساعدت على تضييق دائرة الفقر عموما.
في ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة، تضعضت المكتسبات التي تراكمت على مدى أكثر من عقد من الزمن. وهذا أمر طبيعي لكنه مقلق للغاية. فمستويات الفقر ارتفعت حتى في الدول المتقدمة، رغم برامج الإنقاذ التي اعتمدتها الحكومات فيها. فكيف الحال في الدول التي تعاني هشاشة اقتصاداتها واضطراب التنمية فيها؟ وتكفي الإشارة هنا، إلى أن أعداد الفقراء في المملكة المتحدة تتجاوز 14 مليونا للمرة الأولى منذ 20 عاما، وفق الأرقام الرسمية في البلاد. والأمر ليس أفضل في بقية دول المنظومة الغربية، بما فيها الولايات المتحدة، التي وصل فيها عدد الفقراء إلى أكثر من 43 مليون شخص في الأشهر الأولى من العام الجاري، أي إن هذا العدد مرشح للارتفاع بنهاية هذا العام، عندما تضاف آثار الأزمة الاقتصادية المعيشية التي خلفها الوباء.
وإذا كان الحال هكذا في الدول المتقدمة، فلا غرابة من الأرقام التي توصل إليها البنك الدولي ومعه صندوق النقد الدولي للفقر على الساحة العالمية، إضافة طبعا إلى المؤسسات التابعة للأمم المتحدة ذات الصلة. وفق آخر الدراسات التي قدمتها المنظمة الدولية، فإن أكثر من مليار شخص ربما يعيشون في فقر مدقع بحلول عام 2030، بسبب الآثار طويلة الأجل لجائحة كورونا. وبالطبع كل شيء بات مرهونا بالقدرة على تحقيق الانتعاش الاقتصادي العالمي بأسرع وقت ممكن، وهذا أمر ليس مضمونا، في ظل الانكماش الراهن، ودخول العالم في عمق موجة ثانية من هذا الوباء العالمي، حصدت من الأرواح في بعض الدول أكثر مما حصدته الموجة الأولى. فضلا عن عدم وضوح الرؤية حيال اللقاحات الماحقة لكورونا رغم المؤشرات الإيجابية التي ظهرت في الأسابيع القليلة الماضية.
بات من المؤكد أنه في حال امتداد أجل الانتعاش، فإن أكثر من 207 ملايين شخص سينضمون إلى عديد من الفقراء حول العالم، ولا سيما في الدول النامية، التي تواجه مصاعب شتى، ليس فقط على الصعيد المعيشي، لكن أيضا على الجانب الصحي، بسبب تواضع أنظمتها الطبية أصلا، وغيابها تماما في بعض المناطق. هذه الدول تشهد حاليا بالفعل تبدد مكاسب حققتها على مدار العقدين الماضيين. صحيح أنها لم تنقلها إلى المستويات المرجوة، إلا أنها بلا شك وضعتها على المسار المطلوب، ولا سيما أنها شهدت في الفترة المشار إليها، تراجع مستويات الفقر، مع ارتفاع متوسط أعمار المواطنين، فضلا عن تحسن أنظمة التعليم في مختلف المراحل، بما في ذلك توفير التعليم في مناطق كانت خالية تماما منه. والنقطة اللافتة هنا أيضا، أن الدول النامية باتت مع الأزمة الراهنة تعاني اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
لا شك أن الدول الكبرى تحركت بصورة سريعة لاحتواء ما أمكن احتواؤه من آثار الأزمة الاقتصادية الناجمة عن تفشي كورونا. وكان أبرز هذه التحركات ما قامت به مجموعة العشرين بتخصيص 11 تريليون دولار لدعم الاقتصاد العالمي، بما في ذلك تخفيف الضغوط عن الدول النامية في ساحات الديون. أسهم ذلك بالفعل في تعزيز الحراك لوقف التدهور الاقتصادي هنا وهناك، وبالتالي مواجهة الجانب الخاص بالفقر والفقر المدقع. وهناك مخططات حقيقية موجودة بالفعل لتعزيز أدوات المواجهة المشار إليها. فإذا كان من الصعب حاليا القضاء على الفقر، فبالإمكان تفادي زيادة الفقر المدقع، عن طريق الاستثمارات المختلفة، ولا سيما في برامج الرعاية الاجتماعية والحوكمة والرقمنة والاقتصاد الصديق للبيئة.
واستنادا إلى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فبهذه الاستثمارات، يمكن أن يتم تخطي مسار التنمية لما قبل الجائحة، وهذا وحده سينتشل ما يقرب من 146 مليون شخص من الفقر عموما. ولا يوجد في الواقع حل آخر للحد من الفقر، خصوصا في الدول النامية والأشد فقرا. فالمهمة الآن تنحصر في إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الجائحة، وليس في تحقيق النمو المأمول الذي لا يزال بعيدا عن الساحة الدولية كلها. إنها مهمة إنقاذ مكتسبات كانت موجودة بالفعل على الأرض، وكانت تمثل قاعدة لنمو أكثر استدامة.
إنشرها