Author

اقتصاد مسيّس .. متى يتحرر؟

|

عانى الاقتصاد التركي كثيرا، التدخلات المباشرة من قبل الرئيس أردوغان وحكومته، في تحديد معايير السوق في كل المجالات، ولا سيما سعر صرف الليرة الذي تعرض لتراجعات تاريخية كبيرة في الأعوام القليلة الماضية. والذي أسهم أيضا في زعزعة الوضع الاقتصادي في هذا البلد، الخلافات الحادة التي نشبت بين الرئاسة والقيادات الاقتصادية الأخرى، خاصة حاكم مصرف تركيا المركزي الذي استقال قبل ثلاثة أعوام تقريبا احتجاجا على تدخلات الحكومة، التي فرضت نسبة فائدة منخفضة، بينما كانت الليرة تحتاج إلى رفع الفائدة بصورة فورية للمحافظة على قيمتها أو للسيطرة على تراجعاتها، قدر الإمكان. هذه الخلافات، أدت إلى عزل عدد من القيادات الاقتصادية التي اختلفت مع الرئاسة حول رسم الاستراتيجية الاقتصادية. في ظل هذا الوضع، تصدرت الليرة التركية هذا العام قائمة أسوأ عملات الأسواق الناشئة أداء مقابل الدولار. ففي العام الجاري خسرت هذه الليرة 21 في المائة من قيمتها أمام العملة الأمريكية، وهي تواصل التراجع أمام بقية العملات الرئيسة الأخرى. كل النتائج الاقتصادية التركية جاءت سيئة، وزادت المساوئ بصورة كبيرة، في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية التي خلفها وباء كورونا المستجد. لكن في المحصلة يبقى السبب الرئيس لهذا التراجع وانهيار العملة، هو تسييس الاقتصاد الوطني وسوء إدارته وشبهات الفساد التي تحوم حوله، في الوقت الذي يحتاج فيه إلى تحريره من القيود السياسية بصرف النظر عن الحجج التي تطلق بين الحين والآخر، وهي حجج لم تصمد طويلا أمام الحقائق على الأرض، الأمر الذي أدى إلى هروب نسبة كبيرة من الاستثمارات الأجنبية، التي يعتمد عليها اقتصاد البلاد بشكل أساسي. بالطبع، جاءت استقالة بيرت البيرق وزير المالية، كمحاولة إنقاذ للاقتصاد التركي، لكن المشكلة تتعلق بعمق الأضرار التي تسبب فيها هذا الوزير. ويتحرك المسؤولون الأتراك حاليا، من أجل إعادة معايير السوق الحرة إلى الساحة، وهذه المعايير دفعت منذ عقدين من الزمن الاقتصاد التركي إلى مراكز متقدمة في قائمة الاقتصادات الناشئة، كما أنها دفعت الدول المتقدمة إلى توفير التسهيلات التجارية والاستثمارية اللازمة لتركيا، بما في ذلك فتح أسواق الاتحاد الأوروبي أمام المنتجات التركية دون رسوم أو برسوم تصل إلى مستوى رمزي في كثير من الأحيان. لكن منذ استقالة البيرق وقبل بقليل وإقالة حاكم المصرف المركزي مراد أويصال، بدأ المسؤولون رفع القيود التي تمنع المضاربين من خفض قيمة الليرة التركية، إضافة إلى نقطة مهمة، تتعلق بمنع المقترضين من تمديد قروضهم ودفع أعلى معدل للفائدة خلال عامين. يتطلب الوضع الاقتصادي في تركيا مزيدا من تحرير القيود التي فرضت بناء على رغبات الرئيس أردوغان وفريق حكومته. لكن السؤال الأبرز يبقى كما هو سابقا، هل سيترك الوضع الاقتصادي يسير وفق المبادئ والأعراف الاقتصادية الواقعية، أم أن التدخلات في مسار هذا الاقتصاد ستستمر وفق الأهواء. سياسة التدخلات في القرارات والمسار الطبيعي للاقتصاد تم استخدامها من قبل أنظمة أخرى حول العالم، وكانت النتائج مروعة، بحيث أغرقت الاقتصادات المستهدفة في مشكلات تتطلب فترات طويلة لحلها. علما بأن الاستثمارات التي خرجت من تركيا في الأعوام القليلة الماضية، خصوصا في العامين الماضي والحالي، يصعب أن تعود مجددا إلى الساحة التركية، مع عدم وضوح الرؤية حيال التشريعات والمرونة الضرورية في تحريك الاقتصاد، فضلا عن الحوكمة التي تراجعت بشكل كبير. بسبب هذه السياسات الخاطئة واصل الاقتصاد التركي انحداره إلى مستويات مقلقة، خلال الفترة الأخيرة، سواء بترنح الليرة أو بتفاقم العجز في الميزان التجاري، وبالفعل بالأرقام، تتفاقم أوضاع الاقتصاد التركي ليقع داخل دائرة تشاؤمية مستقبلية.

إنشرها