Author

بنك مركزي .. حوكمة وتطوير 

|

رحلة اقتصادية طويلة، وتحولات كبيرة منذ صدر أول نظام سعودي للنقد في عام 1346هـ (1928) تحت اسم "نظام النقد الحجازي النجدي"، عندما تم تحرير الاقتصاد السعودي من تبعيات اقتصادية إقليمية وعالمية وتم سك الريال العربي الفضي، يحمل اسم المملكة العربية السعودية، بحجم ووزن وعيار الروبية الهندية الفضية. ثم أنشئت مؤسسة النقد العربي السعودي بموجب مرسوم ملكي من المؤسس - رحمه الله - في عام 1952، ثم اعتماد الجنيه الذهب السعودي عملة رسمية للمملكة. ثم صدرت إيصالات الحجاج "الإصدار الأول" من فئة عشرة ريالات بهدف التيسير على الراغبين في أداء فريضة الحج من عناء حمل عملات معدنية ثقيلة الوزن. وخلال هذه الفترة كانت مهمة المؤسسة محصورة في سك النقد والإيصالات، ولم تكن هناك مفاهيم اقتصادية كبيرة مثل كميات النقود.

وفي عام 1959 صدر نظام النقد السعودي وصدرت العملة الورقية الرسمية، ثم ظهر نظام مراقبة البنوك في عام 1966، ليرسم تحولا كبيرا في دور مؤسسة النقد وعلاقتها بالبنوك، ونظام المراقبة على العمليات المصرفية. وفي عام 1990 تم إنشاء شبكة المدفوعات السعودية SPAN، بهدف تشجيع التعامل الإلكتروني مع النظام المصرفي، ثم ظهر نظام سريع لاحقا في العقد نفسه. وفي مطلع القرن الحالي تم إصدار نظام مراقبة شركات التأمين التعاوني، وتم تكليف مؤسسة النقد بذلك، مع التطورات اللاحقة الكثيرة التي تتعلق بمراقبة شركات التمويل، وتطورات هائلة أخرى شهدتها الأسواق العالمية أخيرا، من بين ذلك ظهور النقد الإلكتروني. كل تلك التطورات جعلت التحول من مفهوم مؤسسة النقد إلى مفهوم البنك المركزي أمرا ضروريا.

وبهذا صدرت بالأمس موافقة مجلس الوزراء برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، على نظام البنك المركزي السعودي. فهي رحلة اقتصادية مليئة بالحراك والتحولات التي تستجيب للتطورات، وبصورة متأنية تواجه الوقائع الجديدة. التحول إلى مفهوم البنك المركزي، يتطلب اليوم استقلالا حقيقيا عن الجهاز الحكومي، استقلالا تتطلبه التحولات الكبيرة التي ظهرت على الساحة الاقتصادية العالمية، وما فرضته من حوكمة اقتصادية تضمن سلامة القرار الاقتصادي وتضمن استقلاليته. لقد تضمن نظام البنك المركزي تعديلا لمسمى مؤسسة النقد العربي السعودي، ليصبح البنك المركزي السعودي، والنظام بذلك يعد بأن البنك المركزي ليس مؤسسة جديدة كليا، بل هي امتداد لمؤسسة النقد، وامتداد لكل العمل الكبير الذي تم منذ ما يقرب من 100 عام. وتأكيدا لهذه الحقيقة، فإن النظام الجديد أكد احتفاظ البنك باختصار "ساما - SAMA" لأهميته التاريخية ومكانته محليا وعالميا.

كما أن الأوراق النقدية والعملات المعدنية من جميع الفئات التي تحمل مسمى مؤسسة النقد العربي السعودي، ستستمر في الاحتفاظ بصفة التداول القانوني والقوة الإبرائية. وهكذا، فإنه من غير المتوقع تماما، ووفقا لهذا، أن يكون للتحول من مسمى مؤسسة النقد إلى البنك المركزي، أن تحدث تحولات في عمليات إدارة النقد أو قياس تكلفة الإقراض، أو أسعار الفائدة، فهذه القضايا استقرت بما يناسب الاقتصاد السعودي، فهناك سجل تاريخي طويل للمواقف الاقتصادية المختلفة التي شكلت الوضع الراهن، كما أن نظام مراقبة البنوك والأنظمة الأخرى لا تزال سارية المفعول وليس من المتوقع أن يكون لهذا التحول تأثير في أعمالها بأي شكل، ذلك أن العلاقة مستقرة منذ أمد بعيد بين النظام المصرفي وإداراته في مؤسسة النقد.

لقد أثبتت التجارب الكبرى التي تعرض لها الاقتصاد العالمي متانة النظام البنكي والمالي السعودي، وقدرته على امتصاص الصدمات الاقتصادية العالمية، ولعل ما حدث في أزمة 2008، وما حدث أخيرا مع أزمة تفشي فيروس كورونا، وما تطلبه ذلك من سرعة توفير تسهيلات للشركات، تؤكد متانة النظام البنكي وقدرته على تمويل الاقتصاد السعودي وتوفير احتياجاته. ولهذا، فلن يكون للتغيرات التي فرضها نظام البنك المركزي، من مثل تغيير المسمى، أثر في هذا الاستقرار، وليس من المتوقع والحال هذه أن يكون لهذه التعديلات أثر أيضا في سوق المال، أو أثر في القطاعات الاقتصادية الأخرى، ولعل أهمها القطاع العقاري. لقد ركز النظام بشكل واضح على أن يمارس البنك المركزي صلاحيات مؤسسة النقد كافة ويأخذ أصولها كافة، لكن يرتبط مباشرة بالملك مع استمرار تمتع البنك المركزي بالاستقلال المالي والإداري.

فالهدف من هذا واضح - كما أشرنا - حول ضرورة مواكبة الممارسات العالمية للبنوك المركزية، وحوكمة الاقتصاد السعودي بشكل يزيد من ثقة المجتمع الدولي والاستثمارات الأجنبية، فقد حدد النظام أهدافا للبنك تضمن المحافظة على الاستقرار النقدي، واستقرار القطاع المالي وتعزيز الثقة به، ودعم النمو الاقتصادي. وإذا كانت مفاهيم المحافظة على الاستقرار النقدي والنظام المالي واضحة، فإن مفاهيم مثل دعم النمو الاقتصادي قد تحتاج إلى بعض النقاش، فالبنوك المركزية لم تعد مجرد بنك للدولة، بل هي أداة اقتصادية للتحفيز الاقتصادي المستقل، من حيث قدرة المؤسسة بصفتها الرسمية المستقلة على قراءة التقلبات الاقتصادية ومستويات التضخم، فالنظام أكد أن البنك المركزي هو المسؤول عن وضع وإدارة السياسة النقدية واختيار أدواتها وإجراءاتها، إضافة إلى توضيح علاقة البنك بالحكومة والجهات الدولية الخارجية ذات العلاقة، ووضع النظام إطارا لحوكمة أعمال البنك وقراراته.

إنشرها