Author

قمة الاطمئنان وتمكين الإنسان

|


بعد رحلة امتدت عاما كاملا من الاستعدادات والاجتماعات والمبادرات، انطلقت أمس أعمال قمة دول مجموعة العشرين برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز. وفي افتتاحية كلمته، قال "إنه يؤسفنا أننا لم نحظ باستقبالكم في الرياض، نظرا للظروف التي يواجهها العالم مع انتشار فيروس كوفيد - 19". فالرياض قبلة للمحبة والسلام العالمي، أرض الكرم العربي منذ تاريخ طويل، كانت وما زالت ترى الضيافة العربية جزءا أصيلا من ثقافتنا، وتعد قمة العشرين حدثا مبهجا للرياض وأهلها، ولجميع أبناء السعودية.

ففي الرياض، تلتقي الوفود من جميع أنحاء العالم، لتختلط الثقافات والأفكار في بيئة متسامحة، بما يحقق للعالم أجمع إرساء لغة السلام والحوار، التي تمكننا من فهم بعضنا بعضا، وبهذه اللغة وهذه الروح المضيافة تتحقق أرض صلبة لتنفيذ مبادرات وقرارات قمة العشرين، خاصة تلك التي تمثل تحولا عميقا وإصلاحا للأسواق والمنظمات الدولية. لكن رغم الجائحة، التي لم تمكن الوفود والقادة من اللقاء المباشر، إلا أن قدرات المملكة، بتوجيهات الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، استطاعت تنفيذ الموضوعات المدرجة على أجندة المجموعة، وتوفر من خلال تقنيات المستقبل حوارا عالميا شفافا، وصادقا، خاصة أن الأزمة العالمية، التي سببتها جائحة كورونا، وحدت البشر في مواجهة هذا العدو الفيروسي.

فقمة الرياض اليوم، تعد أهم القمم في تاريخ المجموعة منذ إنشائها قبل 21 عاما، ومنذ أول لقاء لقادتها قبل 12 عاما، والمملكة تقود العالم إلى نجاح غير مسبوق، وتعمل جاهدة على دعم وتسخير مفهوم التعاون الدولي من أجل مواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية. لقد تأكد للعالم أن وجود السعودية في قمة العشرين مهم، فالمملكة، ومن خلال رئاستها هذه القمة، تمكنت من إعادة الاطمئنان والأمل إلى شعوب العالم، فكان الملك سلمان، حريصا على دفع وتوحيد الجهود الدولية لمواجهة أخطر أزمة فاقت في تبعاتها تداعيات الحرب العالمية الثانية.

كما حرص الملك سلمان، منذ اللحظات الأولى لانتشار الجائحة، على جمع قادة العالم في قمة طارئة، أكد فيها ضرورة التعاون الدولي، إيمانا بأن النهج الجماعي والتشاركي، أفضل سبيل لمواجهة الأزمة. ومنذ تلك اللحظة، أدرك العالم خطورة الوضع، وأن التراخي في التعامل مع الجائحة قد يفاقم الأزمة بشكل يفوق التصورات. ويمكن القول اليوم، إنه لولا فضل الله ثم تلك القمة الطارئة، لتجاوزت الوفيات من هذه الجائحة، أعداد الوفيات التي تسببت فيها أزمات سابقة، مثل أزمة انتشار فيروس الإنفلونزا الإسبانية مطلع القرن الماضي، لكن كان التدخل السريع لمواجهتها، هو السبيل إلى عدم تكرار أخطاء الماضي.

فقد دعا الملك سلمان، قادة دول مجموعة العشرين، إلى الارتقاء بمستوى التحدي، كما أن السعودية عملت بجدية والتزام على تحقيق أهداف المجموعة من جهة، وتصديها لمسؤولياتها في مواجهة أزمة كورونا، من جهة أخرى. ومن اللافت للنظر، أن المملكة تعد أول دولة تستضيف قمتين لمجموعة العشرين في عام واحد، ونجحت باقتدار في التنظيم والترتيبات والنتائج والقرارات، رغم الأسلوب المختلف والأدوات الجديدة في اللقاء والنقاش، فكانت التقنية والاجتماعات عن بعد، سيدة الموقف.

ولعل هذا النجاح، وهذا التفاعل بين الإنسان والتقنية، يعكس روح العصر والعقد المقبل، فالتقنية والابتكار وعلوم الآلة والذكاء الاصطناعي، كانت حاضرة بقوة في أعمال واجتماعات الدورة الحالية كافة، وهي تمثل امتدادا لنتائج قمة اليابان عام 2019، التي أكدت ضرورة دعم الاقتصاد الرقمي.

كما أن الأحداث التي أفرزتها الجائحة، من إعادة تنظيم العمل وتدفقات الاستثمارات وتوجهاتها، صنعت فرصا جديدة، ومهارات عمل فريدة. ولهذا، وجه الملك سلمان، في كلمته، بضرورة اغتنام فرص القرن الـ21 للجميع، وتسخيره ليكون وقتا لنمو الاقتصاد العالمي وعودته بقوة إلى نموه الطبيعي، من أجل خدمة شعوب العالم واطمئنانهم. وفي هذا الإطار، أثبتت مجموعة العشرين بقيادة السعودية قدرتها على تخفيف آثار جائحة كورونا، بتقديم مبادرات متنوعة ومختلفة في جميع الجوانب التي تخدم دول العالم أجمع.

ومن الجدير بالذكر أيضا، أن السعودية اهتمت بالدول النامية والفقيرة، وذلك منذ اللحظات الأولى لتسلمها رئاسة المجموعة، فلم تركز فقط على سبل تجنيب دول المجموعة تداعيات الأزمة الحالية، بل اهتمت بإنسان العالم، ودعم الدول النامية، وتعزيز صمود اقتصاداتها تجاه الجائحة.

واستطاعت المملكة أن تقنع دول المجموعة بضرورة دعم الدول الفقيرة لمواجهة تداعيات الأزمة، ومن ذلك الإعفاء الكامل من الديون، أو إعادة جدولتها، أو الإعفاء من الفوائد، واستفادت من ذلك 73 دولة. وقد تم دعم الاقتصاد العالمي بأكثر من 11 تريليون دولار، ولم يسبق للعالم أن عمل بمثل هذه الجهود المشتركة، وبهذه الروح العالمية العالية من المسؤولية تجاه الإنسانية، ولا عجب، فالمملكة أرض الإنسانية. ولهذا أيضا، نقرأ في كلمة الملك سلمان، ضرورة إتاحة الفرص للشباب، وتعزيز دورهم في المجتمع وسوق العمل، وتمكين المرأة، وتعزيز الموارد البشرية، من خلال التعليم والتدريب وإيجاد الوظائف.

فالاقتصاد العالمي، في كلمة خادم الحرمين الشريفين، تجاوز مفاهيم التجارة العالمية إلى الاهتمام بأنواع رأس المال كافة. ولهذا، تضمنت كلمته الإشارة إلى مبادرات الإصلاح، ومن ذلك مبادرة الاقتصاد الدائري للكربون، وهي التي تعكس حرصها الشديد على تهيئة الظروف لصنع اقتصاد إيكولوجي، وضمان مصادر متجددة ومستدامة للطاقة صديقة البيئة، بأيسر تكلفة.

ومن المبادرات المهمة، التي تضع المملكة فيها بصمة واضحة، مبادرة الرياض لمستقبل منظمة التجارة العالمية. فالنظام الحالي، لم يعد قادرا على تلبية الاحتياجات العالمية، ولا بد من فهم جديد للعلاقات الاقتصادية مع ضمانات النمو المتساوي، وأيضا حل الخلافات بشكل لا يؤثر في سلاسل الإمداد العالمية، أو يفرض قيودا على الصناعات المحلية لا تستطيع معها النمو والمنافسة.

هكذا بدت السعودية، كما عهدناها في المواقف الإيجابية كلها، مع انطلاق قمة مجموعة العشرين، أمس، دولة تقود العالم للسلام، مبادرات إصلاح تقابل توقعات المجتمعات نحو إصلاحات تضمن حياة كريمة واطمئنانا للجميع وتمكين الإنسان، مع استخدام للتقنية لم تشهده قمم الأرض قاطبة من قبل، في إعلان واضح الدلالة لما سيكون عليه العقد المقبل، وما الفرص التي بانتظار الجميع.

إنشرها