Author

في أوروبا انكماش متصاعد

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"الموجة الثانية من الوباء تقضي على آمالنا في انتعاش سريع"
فالديس دومبروفسكيس، المفوض التجاري الأوروبي
كل التوقعات الخاصة بالاقتصاد الأوروبي مهزوزة، وهي مهزوزة أيضا حيال الاقتصاد العالمي ككل، خصوصا في ظل حالة عدم اليقين التي يعيشها هذا الاقتصاد، بسبب انفجار موجة ثانية من وباء كورونا المستجد، يتحدث بعض الجهات عن أنها ربما ستكون أقوى من الأولى، ولا سيما أنها في بداياتها. القارة الأوروبية لم تكن تتمتع بوضعية اقتصادية مثالية قبل الوباء، مع انخفاض نسبة النمو فيها، وكذلك بسبب التوتر الاقتصادي العالمي الناجم عن حروب ومعارك تجارية أمريكية أوروبية صينية يابانية كورية وغيرها. فالعلاقة الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مثلا كانت متوترة إلى حد لم يسبق له مثيل، بفعل توجهات إدارة الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترمب، التي أسست لمعارك تجارية حتى مع الحلفاء التقليديين، فضلا عن الخلافات السياسية الأخرى بين طرفي محوريين عالميين.
الاقتصاد في الاتحاد الأوروبي، حقق بعض الحراك في الربع الثالث من هذا العام، كغيره من الاقتصادات العالمية الأخرى، إلا أنه كان حراكا قصيرا وقليل الزخم. فقد استفاد هذا الاقتصاد من إعادة فتح القطاعات التي تم إغلاقها في الربع الأول من هذا العام، إلى درجة أنه حقق نموا قصيرا بلغ 30 في المائة، إلا أن هذا النمو سرعان ما صار صفرا، في أعقاب عودة الإغلاقات على الساحة الأوروبية، دون أن ننسى بالطبع، أن هذا النمو لم يكن ناجما عن حراك اقتصادي طبيعي، بل تحقق بفعل إجراءات الدعم الحكومية، بل لنقل عمليات الإنقاذ التي أبقت على الشركات والمؤسسات في السوق، علما بأن نسبة من هذه الشركات خرجت نهائيا من السوق، لأنها لن تحتمل الضغوط الناجمة عن الإغلاقات.
ومع عودة تدابير الحظر إلى الساحة أملا في محاصرة الوباء بموجته الجديدة، عاد الانكماش مجددا إلى الاقتصاد الأوروبي، واستمر الركود الذي اتفق على وصفه بأنه الأعمق منذ أكثر من 80 عاما. فوفق المفوضية الأوروبية، فإن إجمالي الناتج في منطقة اليورو سيتراجع بنسبة 7.8 في المائة خلال العام الجاري، وهي نسبة جاءت أدنى مما كان متوقعا خلال فصل الصيف الذي شهد انتعاشا ملحوظا. إلا أن الانتعاش المرتقب للعام المقبل سيكون أدنى من 4.2 في المائة. لكن كل هذه التقديرات لا يمكن البناء عليها، لأنها متغيرة بصورة كبيرة في كثير من الأحيان، ولأن السيطرة على الاقتصاد في القارة الأوروبية لا تزال بعيدة عن مكاتب الجهات الصانعة للقرارات. في بعض الحالات صارت سياسة رد الفعل الغالبة على صنع القرار الاقتصادي.
بالطبع سيكون هناك تفاوت في مستويات الانكماش بين دول منطقة اليورو، علما بأن الدول الكبرى في هذه المنطقة هي الأكثر عرضة لهذا الانكماش. فإسبانيا مثلا، سجلت فعلا انكماشا بلغ أكثر من 12 في المائة، وهي النسبة الأعلى تقريبا بين بقية دول المنطقة، في حين سجلت إيطاليا 10 في المائة، وفرنسا 9.9 في المائة. والأمر ينسحب على بقية الدول وإن بمستويات انكماش أقل، إلا أنها تبقى معدلات عالية. من هنا، كان ضروريا الاعتماد على حزم الدعم الحكومية التي بلغت في الاتحاد الأوروبي منذ تفشي الوباء 750 مليار يورو. وهذا ما دفع كريستين لاجارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، إلى مناشدة الحكومات الأوروبية بضرورة ضخ هذه الأموال بسرعة، واعتبرت أنه إذا لم يتم توجيه أموال الدعم "فسنكون قد أهدرنا فرصة تاريخية لتغيير المسار".
والخوف لدى لاجارد ينبع من إمكانية أن تختفي الأموال المشار إليها في الآلية الإدارية، ولا تصل إلى الاقتصاد الحقيقي. وبعيدا عن هذه المخاوف الناتجة عن النظام البيروقراطي، فالوضع الاقتصادي يسير نحو مزيد من الأزمات على الساحة الأوروبية، ليس فقط في إمكانية ارتفاع مستويات الانكماش (وهذا متوقع كثيرا)، لكن أيضا في أن الانتعاش المأمول سيكون أدنى مما تتمناه كل الحكومات الأوروبية. فالانكماش الكبير المتصاعد، إلى جانب تنامي الديون الحكومية التي وصلت في كثير من دول القارة إلى أكثر من نواتجها المحلية الإجمالية، إلى جانب عوامل أخرى ستعطل الخروج السريع من الأزمة. والمؤشرات الأكثر واقعية تدل على أن عودة الأوضاع الاقتصادية إلى ما كانت عليه قبل كورونا لن تتم قبل عام 2023، ما يعني أن التدخل الحكومي سيتواصل، والاضطراب الاقتصادي سيتعمق.
في ظل هذا المشهد، تسيطر على الساحة أيضا مشكلة الاتفاق التجاري الأوروبي البريطاني الذي يواجه مصاعب جمة، إلى درجة أن المملكة المتحدة قد تخرج بنهاية العام من الاتحاد، دون هذا الاتفاق، الأمر الذي سيزيد من مستوى التوتر بين طرفين كانا لعقود في كتلة اقتصادية وسياسية واحدة. وفي كل الأحوال، فالاقتصاد الأوروبي يمر بأسوأ مرحلة منذ الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت عام 2008، وإذا ما استمر الوضع في حالة عدم اليقين، فإنه قد يتجاوز في مساوئه ما أتت به الأزمة المشار إليها. كل شيء صار منذ أشهر مرهونا بالذي سيصل إليه الوباء أوروبيا وعالميا.
إنشرها