Author

معايير التكنولوجيا .. صراع جديد

|

من الواضح جدا أن الصراع بين الولايات المتحدة والصين، تجاوز حدود التجارة العالمية، وبدأ يخرج فعليا عن إطار التعريفات الجمركية وفرض الضرائب والاتهامات المتبادلة المستمرة، فالمسألة تبدو أعمق مع تحول الصراع إلى السيطرة على المؤسسات الدولية التي تضع المعايير العالمية في الصناعة والاتصالات. ففي تقرير نشرته "الاقتصادية"، يقول الأمين العام للاتحاد الدولي للاتصالات، إن "القوة التكنولوجية للصين الآن، وفي ظل مناقشة المعايير ذات الصلة، أصبحت في المرتبة الأولى، ويتوقع المجتمع الدولي أن تلعب الصين دورا أكبر في نظام الأمم المتحدة".

كما أشار إلى دور شركات الاتصالات في الصين في وضع معايير جديدة للصناع، وعلى هذا، فإن المنافسة والسباق بين الولايات المتحدة والصين - وأيضا الاتحاد الأوروبي - ستجري جزئيا حول السيطرة على وضع القواعد، التي تكمن وراء أهم صناعات العصر. وهنا تبدو صورة الحرب الباردة الجديدة، التي لم تعد السعي نحو امتلاك القوة النووية الصاروخية عابرة القارات، بل في صناعة معايير تكنولوجية عالمية لا يمكن الخروج عنها، حيث يؤكد مدير برنامج سياسة الفضاء الرقمي والسيبراني في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، أن "المعايير الصناعية هي مجال مهم من مجالات الخلاف في الحرب الباردة الجديدة، حيث تستعد بكين وواشنطن للسيطرة على المعايير، خاصة في التكنولوجيات الناشئة"، وهذا التنافس على مستوى صناعة المعايير، يتطلب استقطابا كبيرا للدول وفرز تكتلات صناعية مختلفة. ونلاحظ اليوم، أن الصراع الآن على أشده على مستوى اتصالات الجيل الخامس 5G، وهي تكنولوجيا أساسية تمكن "إنترنت الأشياء"، وهو أيضا شديد في صناعة أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي.

وقد أثبتت التجارب التاريخية أن من يستطيع السيطرة على صناعة هذه المعايير، التي من خلالها تقوم دول العالم بقبول أو رفض المنتجات، فإنه حتما سيربح هذه الحرب الباردة. ففي واشنطن، ينظر إلى المعركة من جانبين، أولها أنها معركة ضد الديمقراطية من قبل الصين، فالصين تريد فرض استبداد تكنولوجي، كما في أروقة مؤسسات القرار الأمريكية، بأن الصين تعتزم السيطرة على الجيل المقبل من البنية التحتية الرقمية، وفرض مبادئ تتعارض مع قيم الولايات المتحدة من حيث الشفافية وتنوع الآراء وقابلية التشغيل البيني واحترام حقوق الإنسان، فالصين تعمل من أجل تعميم قيم الحزب الشيوعي الصيني. كما أن الجانب الآخر يظهر التطبيقات العسكرية والمدنية، فالمعايير الصينية تهدف إلى تسهيل الاندماج العسكري - المدني، من خلال استخدام أفضل ما في البحث والتطوير المدني لتعزيز القدرات التكنولوجية لجيش التحرير الشعبي. في مقابل هذا التشكيك الأمريكي في النيات الصينية، فإن الصين تعمل بجهد كبير على تحقيق حلم طريق الحرير الرقمي، فهي تحاول أن تجعل هذا الحلم عالميا ومبادرة كونية لتحقيق التنمية الشاملة للجميع. وقد وصف تشاو هولين، رئيس وكالة الاتصالات التابعة للأمم المتحدة، وهي محكم دولي مستقل، المبادرة الصينية بأنها تحمل "كثيرا من الوعود".

فهي تشمل برنامجا صينيا ضخما لبناء الطرق والسكك الحديدية والموانئ والمطارات وأشكال أخرى من البنى التحتية في معظم الدول النامية. و"المدن الذكية" هي محور جهود نشر المعايير الصينية، لأنها تتضمن عددا كبيرا للغاية من التكنولوجيات الناشئة، ومن ذلك أنظمة التعرف على الوجه، وتحليل البيانات الضخمة، واتصالات الجيل الخامس، وكاميرات الذكاء الاصطناعي التي تدخل في إنشاء مدن ذكية. كلها تكنولوجيات لا تزال معاييرها في انتظار من يقطفها، وهي - بالتأكيد - تمثل جائزة كبرى لجهود المعايير في الصين. ووفقا لتقارير ودراسات عالمية، فإن الشركات الصينية أبرمت 116 صفقة لتثبيت حزم المدن الذكية و"المدينة الآمنة" في أنحاء العالم منذ 2013، منها 70 في الدول التي تشارك أيضا في مبادرة الحزام والطريق، ووقعت مدن في غرب وجنوب أوروبا على 25 مشروعا "ذكيا" و"آمنا"، مع الصين، وهذه التحركات هدفها غرس معايير الصين التكنولوجية. وعلى هذا النهج، فإن بكين تعمل أيضا على توقيع اتفاقيات سياسية لغاية في نفسها، فقد تم توقيع نحو 85 اتفاقية تعاون للتوحيد المعياري مع 49 دولة ومنطقة.

كما أن الصين تعمل بجهد كبير على توسيع مشاركتها في المنظمة الدولية لتوحيد المعايير ISO. وتمكنت بكين من الفوز بكرسي العضو السادس الدائم في مجلس المنظمة الدولية لتوحيد المعايير، كما أنها أصبحت من قبل عضوا دائما في مجلس الإدارة الفنية، وأخيرا حصلت على منصب رئيس المنظمة. القصة مماثلة في اللجنة الكهربائية الإلكترونية الفنية الدولية، المكونة من 88 عضوا، وهي منظمة تنشر المعايير على جميع العناصر الإلكترونية. وحشد مثل هذه القوة المؤسسية الضخمة في هيئات وضع المعايير المذكورة هو، علامة أكيدة على أن الصين تعمل على ممارسة تأثير كبير في المعايير التكنولوجية العالمية. هكذا بدا شكل الصراع العالمي الجديد، وهنا تدور رحى الحرب الباردة القائمة على موقف صعب للغاية، فتقويض الثقة بالمعايير قد يقود إلى توقف التعاون الدولي بشأنها، وإلى إنشاء تكتلات تكنولوجية متعارضة لا تتفاهم وتتعاون مع بعضها بعضا.

إنشرها