Author

موجة ثانية على ضفتين

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"سأسعى من خلال مجموعة السبع لإعادة توحيد العالم بعد كورونا"
بوريس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا
يتطاير القلق من موجة ثانية لوباء كورونا المستجد، من الضفة الأوروبية للمحيط الأطلسي إلى الضفة الأمريكية له، أو العكس. فمصدر هذا القلق لم يعد مهما، بقدر التداعيات المتواصلة لفيروس يعجز العالم حتى الآن عن إيقافه، أو حتى تقليل ضرباته، فضلا عن احتوائه. هذا الفيروس وصل إلى قلب البيت الأبيض الأمريكي، تماما كما وصل سابقا إلى قلب مقر رئيس وزراء بريطانيا في داونينج ستريت. أعداد المصابين تعود إلى الارتفاع، والإغلاقات الجزئية للاقتصادات بدأت تنتشر هنا وهناك، والخسائر المالية لا تتوقف منذ أن وجه كورونا ضربته الأولى، أواخر العام الماضي، فضلا عن الأضرار التي تصيب المجتمعات، بما في ذلك تزايد عدد العاطلين عن العمل، وخروج مؤسسات من السوق نهائيا، وارتفاع معدلات الفقر، بل حتى نقص إمدادات الغذاء، في ظل ارتباك سائد تعترف الحكومات به.
كيف لا؟ ولم يحدث في التاريخ - بحسب جونسون رئيس وزراء بريطانيا - أن الجنس البشري كان مهووسا بموضوع نقاش واحد كهذا، في حين لم تحدث خسائر اقتصادية مثل تلك الحالية التي صارت جزءا أصيلا من المشهد العالمي. هذه الخسائر بلغت حتى اليوم أكثر من 22 تريليون دولار، تم تعويضها من خلال ديون حكومية هنا وهناك، لا يبدو أن العالم سيكون قادرا على التخلص منها في يوم من الأيام. لم يعد أمام الحكومات سوى الاقتراض من أجل الإنقاذ وليس الاستثمار، بينما تهديدات الوباء قائمة وتتقدم أيضا. على ضفتي الأطلسي يقبع 40 في المائة تقريبا من الاقتصاد العالمي، بناتج محلي إجمالي يصل إلى 40 تريليون دولار، تعرض بالطبع لانكماش بلغ على الساحة الأوروبية أكثر من 18 في المائة وعلى الساحة الأمريكية في حدود 14 في المائة.
الموجة الثانية المتوقعة لكورونا التي يتحدثون عنها هنا وهناك، أجبرت الحكومات التي قررت بالفعل أن تنهي برامج الدعم، على الإبقاء عليها لفترة أخرى. بعض الدول وضعت عدة مستويات للقيود التي ستفرضها، قبل أن تتخذ قرارها بالإغلاق التام، إذا ما استدعى الأمر ذلك. فالإغلاق مجددا يعني توقف عجلة الإنتاج في أغلب القطاعات، بما في ذلك التعليم الذي تحول إلى مشكلة بين المؤيدين لفتحه رغم كل الظروف، والمعارضين لذلك، الذين يرون أنه سيسهم في رفع مستوى الإصابات بكورونا. ففي بريطانيا (مثلا) لم تخل جامعة واحدة ولا حتى مدرسة من إصابات في أوساط الطلاب والمعلمين على حد سواء. لكن المشكلة الكبرى تبقى دائما تلك المتعلقة بخطوط الإنتاج في كل القطاعات ولا سيما المحورية منها.
ورغم أن الولايات المتحدة تتصدر دول العالم من حيث عدد الإصابات والوفيات فيها من جراء الجائحة، إلا أن الآثار الاقتصادية الناجمة عن كورونا تبقى أقل من تلك التي نالت من الساحة الأوروبية. فمستوى الركود في أوروبا أكبر، وهذه نقطة مخيفة للغاية. فلو استكملت الموجة الثانية ضرباتها، ستزيد من إمكانية تحول حالة الركود الاقتصادي إلى كساد مخيف يخشى العالم كله منه، بل لا يمكن أن يتحمله أساسا، لأن أوضاع الاقتصاد العالمي لم تكن في حالة جيدة أصلا قبل الوباء، فضلا عن المعارك التجارية الواسعة التي تشهدها الساحة الدولية هنا وهناك، وعلى رأسها حرب التجارة القائمة بين الصين والولايات المتحدة. ومع إضافة منغصات عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست" والخلافات الكبيرة حول مستقبل العلاقة بين الطرفين، فإن المشهد العام يزداد قتامة.
المخاوف تتعاظم، والارتباك يتزايد، والأمل لا يبدو قريبا. بعض الدول الأوروبية ليست قادرة بالفعل على إعادة إغلاق اقتصاداتها مجددا، لأنها تعاني أصلا مشكلات اقتصادية مزمنة، وهي ليست قادرة أيضا على تركها مفتوحة يتقاذفها فيروس لا لقاح ناجعا ضده بعد. فالموجة الثانية المتوقعة لكورونا سترفع مستويات الضغط على الحكومات في الغرب عموما، التي لا تملك سوى آلية اقتصادية واحدة فقط في الوقت الراهن، هي ببساطة الاقتراض. والأمل دائما معقود على نجاح العالم في وضع اللقاح المأمول بأسرع وقت ممكن. وهنا يمكننا أن نفهم مساعي بريطانيا لإطلاق خطة تمويلية تتضمن مقترحا لتطوير شبكة عالمية لتحديد مسببات الأمراض قبل أن تنتقل من الحيوانات إلى البشر، وتحسين أنظمة الإنذار المبكر، والاتفاق على البروتوكولات الدولية للأزمات الصحية.
إنها خطة واعدة وضرورية، وستلقى تعاونا دوليا بلا شك، لكنها في النهاية، لن تسهم على المديين القصير والمتوسط في احتواء الأزمة الناجمة عن وباء عالمي لم يتوقع أحد انتشاره بهذه الصورة وذاك العنف، في حين تعتقد جهات دولية مختلفة رصينة ومعها حكومات عديدة أن الموجة الثانية من كورونا إذا ما ضربت حقا، فستكون أعنف من الأولى. الأزمة الصحية الراهنة حول العالم ولدت كارثة اقتصادية، وعمقت التدهور الاقتصادي في الدول المتقدمة بصورة مقلقة حقا، فكيف الحال في دول تعتمد بصورة أو بأخرى على التعاون مع الدول الغربية عموما؟
إنشرها