Author

لا ثقة بين أكبر اقتصادين في العالم

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"فقدنا بغباء تريليونات الدولارات في تعاملنا مع الصين على مدار أعوام".
دونالد ترمب، رئيس الولايات المتحدة

الحرب الكلامية بين الولايات المتحدة والصين بشأن الخلافات التجارية هدأت بعض الشيء، لكن المعركة التجارية بينهما جارية على الساحة، بل تصاعدت في الأسابيع القليلة الماضية، رغم الاتفاق التجاري الجزئي الذي أبرمته واشنطن وبكين نهاية العام الماضي. هذا الاتفاق الذي كان العالم يأمل في أن يؤدي إلى اتفاقية تجارية نهائية، تخفف الضغوط على الاقتصاد العالمي ككل. من الواضح أن هدوء الحرب الكلامية بين أكبر اقتصادين في العالم، يعود أساسا إلى انشغال الرئيس الأمريكي ترمب في معركة الانتخابات الرئاسية، وانغماس إدارته في المعركة الراهنة ضد وباء كورونا المستجد، التي صارت جزءا من الحملة الانتخابية نفسها، يضاف إلى ذلك، أن بكين ردت في قرار يبدو حتى الآن استعراضيا أكثر مما هو عملي، على الخطوات العقابية التي اتخذها ترمب حيال الصين.
ومن هنا يمكن القول: إن حربا تجارية مفتوحة وغير مسيطر عليها لن تنشب قريبا. المناوشات ستبقى بالطبع، بل ستتصاعد في المرحلة المقبلة، خصوصا إذا ما تمكن ترمب من البقاء في البيت الأبيض لأربعة أعوام أخرى. فالرئيس الأمريكي لن يتراجع عن استراتيجيته التجارية مع الصين القائمة على الضغوط والعقوبات والاتهامات أيضا. وكذلك الأمر على الجانب الصيني، الذي يعتمد سياسة رد الفعل تجاه التوجه الأمريكي. فضلا عن تمسك الإدارة الأمريكية الحالية باتهامها الذي لا يتوقف لبكين، بأنها أخفت تفشي وباء كورونا عن العالم لمدة كانت تسمح للمجتمع الدولي بمحاصرة هذا الوباء بصورة أفضل. فكل المؤشرات تدل على أن هذه ستكون ساحة أخرى أكثر التهابا في حال فوز ترمب بالانتخابات المقبلة، بصرف النظر عن طبيعة الحقائق حولها.
قبل عام تقريبا، أصدر الرئيس الأمريكي أمرا واجب النفاذ للشركات الأمريكية بمغادرة الصين، في إطار المواجهة التجارية معها. لم تستجب هذه الشركات للأمر المشار إليه، خصوصا أن البيت الأبيض لم يوضح إذا ما كانت للرئيس سلطة إجبارها على الخروج. بعد انفجار جائحة كورونا أسرعت الشركات الأمريكية والأوروبية للتفكير في ترك الصين، والعودة إلى أوطانها. وإذا ما تم ذلك، فعلى هذه المؤسسات أن تتحمل تكاليف تصل إلى تريليون دولار خلال الأعوام الخمسة المقبلة، وذلك وفق بنك الاستثمار العالمي بنك أوف أمريكا. لكن رغم هذه التكاليف الهائلة، فإن الشركات المعنية ستستفيد من خطوتها على المدى البعيد، وليس القصير أو المتوسط، وذلك عبر تعزيز الإمداد والتوريد الخاص، الأمر الذي سيعزز انتشار منتجاتها. لكن في النهاية الأمر لن يتم بسهولة، نظرا للتعقيدات اللوجستية والإجرائية والمالية والعمالية وغيرها.
الحكومة الصينية التي أثارتها مواقف واشنطن الأخيرة تجاه عدد من شركاتها "تيك توك"، و"هواوي"، و"وي تشات" لم تتأخر في التحرك. فقد باشرت العمل بآلية تسمح لها بالحد من نشاطات الشركات الأجنبية. والمثير أن القرار الذي لم ينفذ واقعيا حتى الآن، يشمل ما أسمته بكين بـ "الكيانات غير الموثوقة" من الشركات، وهي تقصد بالطبع المؤسسات الأمريكية. إنها ببساطة خطوة متطابقة تماما مع خطوات واشنطن حيال الشركات الصينية. فإدارة ترمب أعلنت صراحة أن شركات الصين العابرة للقارات يمكن أن تتجسس على الولايات المتحدة عبر أدواتها المختلفة، وعلى رأسها تلك التي تجمع المعلومات الخاصة بالأمريكيين كبرامج التواصل الاجتماعي، وتلك التي تختص بالبنى التحتية للشبكة الدولية. دون أن ننسى الخلافات الأخيرة التي أدت إلى إغلاق الولايات المتحدة قنصلية صينية على أراضيها، وكذلك فعلت بكين بقنصلية أمريكية في الصين، بحجة التجسس.
المعارك التجارية مستمرة على هذا المنوال، والإجراءات الانتقامية المتبادلة متواصلة بين اقتصادين يؤثران بصورة مباشرة في أداء الاقتصاد العالمي، ولا تبدو في الأفق أي علامات على احتواء الخلافات المتصاعدة، فضلا عن أن فرصة استكمال الاتفاق التجاري الجزئي بين بكين وواشنطن ليست حاضرة على الساحة، على الأقل في الوقت الراهن، في حين كان الطرفان يأملان أن يستكمل هذا الاتفاق بنهاية العام الجاري، قبل أن تتفاقم الأزمات بينهما بهذه الصورة. لم تسم الصين حتى الآن شركات بعينها للحد من نشاطاتها، ولم تقم أي شركة أمريكية عمليا في البدء بمغادرة الصين نهائيا، الأمر الذي يبقي تفاقم العلاقات التجارية أخيرا ضمن حدود التهديدات فقط. لكن يمكن للأمور أن تتخذ منحى متسارعا في المرحلة المقبلة نحو تخارج الطرفين من بعضهما بعضا. فالرئيس الأمريكي قال علنا: إنه يفكر في قطع العلاقات الاقتصادية كلها مع الصين.
باتت الأمور الآن محصورة أكثر في نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية. فبقاء ترمب في البيت الأبيض سيدفعه أكثر نحو التشدد الاقتصادي تجاه الصين، بل حتى عدد من الدول الأخرى بمن فيها الحليفة للولايات المتحدة. فالرئيس الأمريكي مقتنع تماما بأن بلاده تتعرض للظلم الاقتصادي منذ عقود، وتعهد برفع هذا الظلم عنها بكل الوسائل المتاحة، حتى إنه هدد مرة بالانسحاب من منظمة التجارة العالمية.
إنشرها