Author

توقعات في كيفية تعافي الاقتصاد العالمي

|
كبير الاقتصاديين في وزارة المالية سابقا
موضوع يطرح بقوة. وزاد طرحه أخيرا مع ظهور مؤشرات كثيرة في دول عديدة على احتمال تفشي موجة ثانية لفيروس كورونا. وكوننا على أبواب فصل الشتاء زاد من قوة الطرح. التوقعات كثيرة. هناك اختلافات ووجهات نظر كثيرة في فهم وتصور كيفية تعافي الاقتصاد العالمي، أي: عودته إلى أوضاع ما قبل الجائحة. ستختلف الأمور من دول لأخرى حسب ملاءمتها المالية والاحتياطيات النقدية التي ستمكنها من الإنفاق على خطط التحول المطلوبة باقتصاد ما بعد كورونا.
رغم الاختلافات، هناك إجماع على أن اقتصاد العالم يواجه تحديات كبيرة على المدى المتوسط، أي: خلال أعوام قليلة مقبلة، حتى بعد انتهاء الفيروس. عجل الله بذهابه وكفانا شره.
تعافي الاقتصاد يتخذ عادة واحدا من أربعة أشكال. يعبر عنها بالحروف الأعجمية L - U - V - W. وكما سأبين في الشرح، حرف اللام بالعربية (ل) أفضل من L في تصوير الوضع. وهي ليست سواء في التوقع أو احتمالية العودة. يعتمد الأمر على ظروف وأحوال كثيرة، وعلى الدولة والموقع الجغرافي ونوع وطبيعة النشاط وهكذا. شكل L يعني حصول انخفاض أو انكماش قوي في الاقتصاد ثم يبدأ بالتعافي التدريجي البطيء على مدى بضعة أعوام، وهذا يعني حصول انكماش وعطالة بنسب كبيرة تستمر أعواما مصحوبة بتعاف تدريجي بطيء. وتبعا، فإن شكل L لا ينبغي أخذه على حرفيته. لكن لا يوجد حرف بالإنجليزية مثلا يصور الوضع كما ينبغي. ولكن الحرف (ل) بالعربية يصور الوضع والتعافي بشكل أفضل.
أما شكل U فيعني انكماشا قويا كالأول، لكنه لا يبقى طويلا، بل يتبعه تعاف على المدى المتوسط كعامين أو ثلاثة. وهذا هو الفرق الجوهري عن الأول.
وأما شكل V فيعني انكماشا سريع الحصول، يليه تعاف سريع الحصول. وهو الأقل احتمالا في الوقوع، بل ما نراه جعله معدوم الاحتمال. لكن هذا الشكل المعبر عن سرعة التعافي هو ما جبلت النفوس على حبه وكراهية عكسه، أي: الانكماش الطويل والتعافي البطيء. ولذا نرى رد حاشية ملك مصر على رؤيا ملك مصر ما جاء بقوله تعالى، "قالوا أضغاث أحلام". وقد فسر الرؤيا يوسف - عليه السلام تفسيرا - لا يحبونه.
وهناك شكل مزدوج للشكل السابق، وهو W. ويعني حصول انكماش يقطعه تعاف مؤقت لظروف ما، تنتهي فيعود الانكماش، ثم ينتهي. وتأخذ العملية كلها في الأغلب مدى متوسطا كعامين أو ثلاثة، وقد تطول. وطبيعة الظروف هي من تحدد المدة. وحصل ما يشبه ذلك في عقد الثمانينيات من القرن الميلادي الماضي. على سبيل المثال، في أسعار النفط، انخفضت أسعار النفط ثم تعافت ثم انخفضت بقوة لفترة ثم رجعت.
نحو ثلث إلى نصف الآراء التي اطلعت عليها تتوقع تعافيا يتخذ شكل U. والنسبة في الآراء تتفاوت بين الدول والمجتمعات. فنسبتهم في أوروبا وأمريكا أكثر من اليابان أو منطقتنا الخليج.
هناك مؤشرات كثيرة في دول عديدة على احتمال تفشي موجة ثانية لفيروس كورونا. حصول ذلك يضر ما حصل من تعاف نسبي في الاقتصاد العالمي في الأسابيع الأخيرة. هو يؤخر رجوع الأوضاع تأخيرا كثيرا. ويجعله أكثر صعوبة.
وتبعا، تبدو جهات اقتصادية عالمية كصندوق النقد الدولي حاليا أكثر تشاؤما على أوضاع الاقتصاد العالمي مقارنة بما كانت تراه قبل شهور قليلة. وهناك نوع من الإجماع على كون الوضع لم يسبق له مثيل منذ الكساد الكبير قبل 100 عام تقريبا. لكن هناك نوع من التفاهم على صعوبة إعادة فرض إغلاق كامل أو شبه كامل. والعالم في انتظار دواء فعال ونجاح تجارب تجرى على لقاحات. قال مدير عام منظمة الصحة العالمية قبل أسابيع قليلة، إن المنظمة دعت دول العالم إلى مواصلة قيود العزل المفروضة لمواجهة الفيروس، مضيفا أن رفع القيود دون السيطرة على الوباء سيكون "وصفة لكارثة". طبعا هو لا ينكر أن الناس ضاقوا ذرعا بالقيود وينشدون العودة إلى الحياة الطبيعية.
دول العالم أصبحت أكثر دراية بما هو مطلوب للتعاطي مع الفيروس. ومن ثم فإن عودة الإغلاق ستكون ضمن ترتيبات وقيود أخف مما حدث سابقا. لكن تبقى المخاوف كبيرة من قوة التأثيرات السلبية على التعليم والتدريب وعمل الموارد البشرية في المستقبل القريب.
والشتاء المقبل سيكون بلا شك صعبا على دول العالم. وحصول موجة ثانية سيعصف بأسواق النفط والأسهم وغيرها. بالمقابل، من الصعب جدا تكرار برامج التحفيز المالي بالحجم نفسه. فالديون العامة والخاصة بلغت حدا كبيرا. وصدرت بهذا تقارير دولية كثيرة. وفي هذا يثار سؤال جوهري: أيهما مقبول أكثر للناس ضبط أكثر في تحرك الناس مقابل ضرر أكبر للاقتصاد، أم التساهل في الحركة والنشاط الاقتصادي مقابل زيادة احتمال انتشار الوباء؟.
وهناك سؤال آخر: ماذا بعد انتهاء الوباء عجل الله بذهابه؟.
بعد انتهاء الوباء هناك أعمال كثيرة مطلوبة عالميا، بما يقلل أخطاء الماضي. وفي هذا ينبه معهد التمويل الدولي على مشكلة حصول تعاف على حساب الإنتاجية. لماذا؟ شهد قطاع الأعمال كثيرا من التغييرات منذ بداية عام 2020، حيث لجأ عديد من الشركات لتغيير أنظمة عملها وأساليب توظيفها، في حين أضاف عديد منها أيضا تقنيات جديدة أصبحت أساسية الآن في ظل العمل عن بعد. ومن ثم هناك تغيرات في اتجاهات السوق والقطاعات الأكثر جذبا لفئات من المهنيين والوظائف خاصة.
من المخاطر المحيطة بعودة الاقتصادات ازدياد الاستقطاب والاستحواذ في دول وشركات على حساب دول وشركات. وهذا يضعف نمو أجور كثيرين ويخفض الإنتاجية في قطاعات وأنشطة وشركات كثيرة، ويزيد التفاوت وتركيز الثروات والدخول بدلا من تقليله. وترى منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد" أنه مما ينبغي عمله لإعادة بناء الاقتصاد العالمي تقليل التفاوت في الثروات والأجور والدخول بين البشر. ذلك أن هناك علاقة طردية بين مستويات الأجور ومستويات النمو الاقتصادي. وتبعا، ترى المنظمة أهمية بناء سياسات اقتصادية تحسن سوق العمل والأجور وتقلل المشكلات السابقة.
إنشرها