ثقافة وفنون

الرواية والفلسفة .. اتهامات بالثرثرة وعتاب لا يصل إلى القطيعة

الرواية والفلسفة .. اتهامات بالثرثرة وعتاب لا يصل إلى القطيعة

ألبير كامي

الرواية والفلسفة .. اتهامات بالثرثرة وعتاب لا يصل إلى القطيعة

لفهم العلاقة بين الرواية والفلسفة تجب العودة إلى جذور تلك العلاقة.

انبرى روائيون وأدباء للدفاع عن الراوية كجنس أدبي أصيل، إثر هجوم فرضته الفلسفة، ففي وقت مضى كانت تعد الرواية متنفسا للفلاسفة، ولا سيما في ذروة انتشار الروايات في القرن الـ20، التي استطاع فيها الفلاسفة نقل فلسفتهم وأفكارهم عبر الرواية من خلال المقولات الفلسفية، أو من خلال تبني رؤية فلسفية في جوهر الرواية.
لكن العلاقة الإشكالية بين الرواية والفلسفة، شابها توتر و"عتاب" طويل أخيرا، ولا سيما بعد وصف مفكرين الرواية بأنها "ثرثرة"، فيما رآها آخرون - ومنهم الفيلسوف والروائي الفرنسي ألبير كامي - ما هي إلا فلسفة تمت صياغتها في صورة خيالية. لتعيد هذه الاتهامات إلى الأذهان عدائية أفلاطون للفن والأدب، وقوله إن الفلسفة تخاطب النخبة، والأدب يخاطب العامة، كما أن الفلسفة تعتمد التعميم والتجريد، بينما الأدب ينحو باتجاه التخصيص والتشخيص.
روايات فلسفية
في مقاربة لفهم العلاقة بين الرواية والفلسفة، تجب العودة إلى جذور تلك العلاقة، وما شهدته من إقصاء، ما لبث أن خفت وتيرته، ووجد ترحابا من الفلاسفة. ففي مقال باللغة الإنجليزية للكاتب جيمس رايرسون حول الرواية الفلسفية، نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" في يناير 2011، تناول الكاتب العلاقة غير السلسة بين الرواية والفلسفة على مدى العقود الماضية، فهو يرى أن معظم الفلاسفة شديدو الحساسية فيما يخص قدرتهم في ميدان الكتابة الفنية والأدبية، مسجلا اثنين من أعاظم الفلاسفة، ويقصد أرسطو وكانت، امتلكا قدرات أدبية متواضعة، رغم إنتاجهما الفلسفي الضخم، وكان مما يثير الاستغراب أن أفلاطون ذاته كان كاتبا أدبيا لامعا، ويتشارك معه في هذا الوصف عدد من الفلاسفة الكبار، مثل نيتشة، شوبنهاور، كيركيجارد.
وبدا رايرسون مدافعا في مقالته عن تمازج الفلسفة في الرواية، فقد كتب فلاسفة مثل جان بول سارتر وجورج سانتايانا روايات، في حين إن روائيين مثل توماس مان وروبرت موسيل كتبوا روايات مفعمة بالرؤى الفلسفية، متحدثا عما سماه "الرواية الفلسفية"، التي تدفع القارئ إلى الاستزادة وقراءة النص الفلسفي.
فالغرض من الرواية الفلسفية لا يكمن في جعل الموضوعات الفلسفية المجردة متاحة للقارئ العادي عبر تبسيط مخل بالأفكار، بل إن الغرض الأساسي منها هو في إشباع الجوع المفاهيمي للقارئ ودفعه بالنتيجة إلى قراءة النصوص الفلسفية ذاتها.
شهادة روائي وفيلسوف
يستشهد روائيون كثر بما قاله ألبير كامي، فهو الرجل الذي جمع بين الفلسفة والرواية، وأنتج روايات شهيرة، حيث تفصح أعماله عما يدور في ذهنه من فلسفة، ترجمتها الروايات.
ففي كتاب "ألبير كامي.. عقول عظيمة" للروائي الأمريكي ديفيد شيرمان، فإن كامي لا يرى تباينات ثابتة جامدة بين الفلسفة والأدب الجيد، ويعلن في كتاب "أسطورة سيزيف" - وهو أحد عمليه الفلسفيين "العمل الآخر هو المتمرد" - أن "الروائيين العظماء فلاسفة عظماء"، وفي عرضه لرواية جان بول سارتر الفلسفية "الغثيان"، يضع كامي أساس التمييز بين الروايات الفلسفية "ما الرواية إلا فلسفة تمت صياغتها في صورة خيالية، وفي الرواية الجيدة تختفي الفلسفة في ثنايا الصور الخيالية، لكن ما أن تنسكب الفلسفة متدفقة من الشخصيات والأحداث حتى تبرز ناتئة مثل السبابة الملتهبة، وتفقد الحبكة مصداقيتها والرواية حياتها".
وفي العلاقة بين الرواية والفلسفة، يرى كامي أنه مثلما تتدثر الفلسفة مختفية في ثنايا الصور الخيالية في الرواية الجيدة، التي هي في ذاتها صياغات لجوانب من تجاربنا، ومن ثم هي في النهاية تجسيد عيني لحياتنا، فإنه في الفلسفة الجيدة تتدثر الصور الخيالية الروائية مختفية في ثنايا التصورات الذهنية.
ومن المدهش حينئذ أنه إذا انعكست جملة كامي عن علاقة الرواية بالفلسفة تصبح الجملة الناتجة عن علاقة الفلسفة بالصور الخيالية العينية المكونة للرواية جملة ربما أقرها هو إقرارا مماثلا "وما الفلسفة إلا رواية "صياغة عينية لتجارب حياتنا" تمت صياغتها في تصورات ذهنية. وفي الفلسفة الجيدة تتدثر الرواية "الصياغة العينية لتجارب حياتنا" مختفية في ثنايا التصورات الذهنية".
الرواية وعاء للقيم
"الفلسفة هي العلم الوحيد الذي يطلب منه أن يبرر نفسه باستمرار".. بهذه الكلمات تحدث الكاتب شايع الوقيان عن الفلسفة وأهميتها، التي أمضى فيها حياته ما بين مساهم في تأسيس حلقة الرياض الفلسفية التي انطلقت في عام 2008، وكتبه التي يؤلفها، إذ صدر له من الكتب: الفلسفة بين الفن والأيديولوجيا، وكتابا: قراءات في الخطاب الفلسفي، الوجود والوعي - استئناف الفينومينولوجيا، وعدد من الكتب المشتركة في المجال ذاته.
وقال في لقاء "الرواية والفلسفة" الذي بث الأربعاء الماضي، ونظمته هيئة الأدب والنشر والترجمة ضمن سلسلة من اللقاءات الحوارية الافتراضية التي تستضيف فيها نخبة من المثقفين السعوديين والعرب، لمناقشة قضايا ثقافية وفكرية متنوعة، "إن الرواية تحتاج إلى الفلسفة كثيرا، وليست وحدها من الآداب التي تحتاج إليها، فهي تعطي عمقا للعمل والفنان، من خلال الاطلاع على آراء الفلاسفة، ولا سيما فلاسفة الفن"، مثيرا الجدل بقوله "إنه لا يعرف فيلسوفا استفاد من الراوية، إلا بعد النصف الثاني من القرن الـ20، إذ أصبحوا أكثر انفتاحا على الفن القصصي".
وفي إجابة عن سؤال حول الحاجة إلى الروائيين أم الفلاسفة، قال الوقيان "إننا نعاني قلة الفلاسفة، التي تحتاج إلى تفرغ كأحد العلوم العقلية المهمة"، داعيا وزارة الثقافة إلى الاهتمام بهذا المجال الفكري.
موت الرواية
إلا أن شايع الوقيان أشعل الجدل حول العلاقة بين الفلسفة والرواية، عبر منصات التواصل الاجتماعي ولقاءاته الصحافية، متنبئا بموت الرواية كجنس أدبي وشكل تعبيري معترف به، قاصدا بـ"موتها" انعدام أثرها في نفوس القراء وقيمتها، مثلما ماتت أنماط من التعبير الفني كالمقامات، والرسائل، والموشحات وغيرها.
كما تساءل في تغريدة على حسابه في "تويتر"، "ما فائدة أن تقول لي حكمة تحتاج إلى ثلاث جمل في 500 صفحة؟! يا له من وقت مهدر"، وعاود في لقائه الافتراضي الأخير مجددا الجدل حينما قال "إن الرواية أدنى مستويات التعبير الفني، لأنها تعتمد على عنصر غير فني هو الثرثرة، والثرثرة ليست بفن"، ما دفع ضيف اللقاء الثاني الكاتب والقاص محمد الراشدي إلى الرد بأن "الثرثرة إن وجدت فهي عيب في الروائي، وليست في الرواية".
وعارض الراشدي، وهو صاحب خمسة إصدارات في القصة القصيرة والنقد الأدبي والكتابة الساخرة، فكرة الوقيان، التي طرحها في اللقاء بأن الفلاسفة لم يستفيدوا من الرواية، مشيرا إلى أن الفيلسوف حينما يقرأ الرواية يقف على تمثلات الفلسفة في حياة الناس.
ويرى الراشدي أنه يمكن أن تكون الرواية وعاء للقيم الفلسفية، وفقا لطبيعة الكاتب والفكرة التي يعالجها، لذلك لا تصادم بين الراوية والفلسفة، منتقدا وضع الرواية والفلسفة موضع المقارنة، من حيث الأهمية، بأنها مقارنة لا معنى لها.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون