أخبار اقتصادية- عالمية

الصين تسعى إلى تعزيز نفوذها الاقتصادي العالمي عبر بوابة سوق الابتكارات

الصين تسعى إلى تعزيز نفوذها الاقتصادي العالمي عبر بوابة سوق الابتكارات

في أوائل الشهر الجاري، أصدرت المنظمة العالمية للملكية الفكرية "ويبو" بالاشتراك مع جامعة كورنيل وإنسياد، مؤشر الابتكار العالمي لعام 2020، وواصلت الصين الحفاظ على ترتيبها العام الذي جاء في المرتبة 14 على المستوى العالمي، والمرتبة الأولى بين الدول ذات الدخل المتوسط والمرتفع.
وأظهر المؤشر أن الصين تمتلك اثنتين من أفضل خمس مجموعات علمية وتكنولوجية عالمية، بينما احتل وادي السيليكون المرتبة الخامسة. وتؤكد الأغلبية العظمى من الاقتصاديين أن الابتكارات مصدر أساسي للقوة الاقتصادية على مستوى الدول المتقدمة، وعلى مستوى المؤسسات والشركات الاقتصادية العامة أو الخاصة أيضا.
وبفضل الابتكار تتمكن الدول من تطوير قدرتها في المجال الإنتاجي، وتتبنى أساليب إنتاجية مستحدثة، تساعد على إنتاج سلع جديدة، أو تطوير المتاح منها. لكن الأهم أن الابتكار يعد عاملا رئيسا في إيجاد الثروة، وتعزيز النفوذ الاقتصادي.
ويعمل ذلك على إيجاد هالة من التقدير للدول أو الشركات التي تحتل المقدمة في ذلك المجال، ويجعلها من الأكثر جاذبية للاستثمار، بما يسمح بزيادة معدلات النمو والربحية لديها، ويعزز من الاستقرار الاقتصادي عبر تعزيز الثقة بالذات، والقدرة على مواصلة الأداء بمستويات مرتفعة من الإنتاجية والكفاءة.
وفي الواقع فإن مؤشر "ويبو" يكشف عن تغير ملحوظ في جغرافية الابتكار على المستوى العالمي، ويتمثل في تحول ملموس نحو الشرق في الأعوام القليلة الماضية، إذ تقدمت مجموعة من الدول الآسيوية هي الصين والهند والفلبين وفيتنام بشكل كبير على مر الأعوام في هذا التصنيف، وباتت تلك الدول الأربع في قائمة الـ50 الأوائل.
لكن هذا لا ينفي أن الاقتصادات الأعلى أداء في مؤشر الابتكار العالمي تنتمي حصريا تقريبا إلى مجموعة الدول ذات الدخل المرتفع، والاستثناء هو الصين التي تحتل المرتبة الـ14 كما أسلفنا، وهي الاقتصاد الوحيد متوسط الدخل في قائمة أفضل 30 اقتصادا في مؤشر الابتكار العالمي.
ولا شك أن عقودا من النمو الاقتصادي السريع في الصين، مكنت الدولة والشركات الخاصة من الاستثمار في المجالات الرئيسة التي تدفع الابتكار تحديدا البحث والتطوير، وتمكنت الصين بفضل هذا من تحسين موقعها في مؤشر الابتكار العالمي والتنافس مع الاقتصادات المتقدمة، مثل الولايات المتحدة والسويد.
وتوضح الأرقام مدى اهتمام الصين بالبحث والتطوير باعتباره العمود الفقري للابتكار، حيث ارتفع الإنفاق كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي من 0.72 في المائة في عام 1991 إلى 2.13 في المائة في عام 2017، ليواصل الارتفاع في الأعوام التالية، ويصل إلى 2.23 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العام الماضي. وعلى الرغم من أن هذا أقل من متوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية البالغ 2.37 في المائة، فإن الحجم الهائل للاقتصاد الصيني يعني أن الإنفاق على البحث والتطوير بلغ الآن 321.3 مليار دولار أمريكي عام 2019، بزيادة 12 في المائة عن عام 2018.
ومع هذا تبدو الصورة ملتبسة عند تقييم مكانة الصين الحقيقية في سوق الابتكارات العالمية، فمن خلال بعض المقاييس تبدو الصين رائدة في مجال الابتكار، لكن وفقا لمقاييس من قبيل التأثير الفعلي للابتكار كما يتم قياسه بواسطة نجاح الشركات في تسويق الأفكار الجديدة والمنافسة في الأسواق العالمية تبدو الصورة مختلطة، اذ أصبحت الصين مبتكرا قويا في بعض الصناعات نتيجة الطلب المحلي، لكن في ابتكار أدوية جديدة أو تصميم طائرات تجارية لا تزال الصين غير قادرة على المنافسة دوليا.
ويشير البروفيسور وليم استيورت الأستاذ السابق في قسم الاقتصاد في جامعة شنغهاي والأستاذ في مدرسة لندن للاقتصاد إلى وجود اختلافات جذرية بين الصين والدول الرأسمالية المتطورة عند تقييم الأدوار المختلفة التي تلعبها الدولة والشركات الخاصة في هذا المجال، وهو ما يوجد تلك الصورة الملتبسة عند تحديد الموقع الفعلي للصين في مجال الابتكار.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن في الاقتصادات المتقدمة تمول الشركات عادة الجزء الأكبر من مبادرات البحث والتطوير، فمثلا تمول الشركات في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية نحو 60 في المائة من أعمال البحث والتطوير في المتوسط، لكن في دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية، تتجاوز هذه النسبة 75 في المائة، في الصين مولت الشركات أيضا 76.5 في المائة من إجمالي الإنفاق العام على البحث والتطوير".
ويضيف "المشكلة تبرز عند تقييم دور الأعمال التجارية الخاصة، أي الشركات في تمويل البحث والتطوير في الصين، إذ إن هذا الدور يبدو مشوشا وغامضا وغير دقيق، نظرا إلى الدور الذي تقوم به الشركات المملوكة للدولة في الاقتصاد الصيني ككل، وفي مجال البحث والتطوير على وجه التحديد، وإذا أدخلنا في الحسبان الدور الذي تلعبه المؤسسة العسكرية الصينية في هذا المجال، التي بدونها ربما سيكون هناك عديد من الشكوك حول القدرات الابتكارية في الصين، فسنجد أن الطابع المؤسسي للابتكار والإبداع في الصين مختلف عن نظيره الغربي تماما".
وفي الواقع فإن عديدا من المديرين التنفيذين في الشركات المملوكة للدولة في الصين يحتلون مناصب داخل الحكومة والحزب الشيوعي، ما يعني أن مبادرات البحث والتطوير التي تمولها الشركات المملوكة للدولة تحصل على دعم حكومي، متمثل في الوضعية التفضيلية فيما يتعلق بالاقتراض من البنوك المملوكة للدولة، ما يقلل من تكلفة الاقتراض، ويوفر لتلك الشركات دعما ماليا أقوى مقارنة بشركات القطاع الخاص.
ويرى الدكتور روبنس لويز من مختبر دار سبري للتكنولوجيا في المملكة المتحدة، أن هيمنة الدولة وتوجهها إلى مجال البحث والتطوير في الصين ترك بصمات واضحة على الاستراتيجية العامة للابتكار هناك.
ويعلق قائلا "يتم توجيه كثير من البحث والتطوير في الصين نحو التطبيقات التجارية، ومن ثم التعليم العالي في الصين يؤدي جزءا أقل في البحث والتطوير هناك مقارنة بالدول الأخرى، فمثلا بين عامي 2008 و2017 تم إجراء 7.5 في المائة فقط من عمليات البحث والتطوير في الجامعات والمؤسسات الاكاديمية الصينية، مقارنة بهولندا مثلا 33.9 في المائة، السويد 26.2 في المائة، الولايات المتحدة 26 في المائة، وحتى أقل بكثير من المتوسط العام في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ويبلغ 18 في المائة تقريبا".
أما الباحثة ماري باسلي من المنظمة العالمية الفكرية فتشير إلى أن الصين قطعت شوطا كبيرا في المجال الكمي للابتكارات، لكن عليها أن تعمل أكثر على الجانب النوعي منه.
وتقول "أودعت الصين ما يقرب من 161 ألف طلب براءة اختراع عام 2008، وهو ما يمثل 8.5 في المائة فقط من الإجمالي العالمي، بعد عشرة أعوام أودعت الصين أكثر من 1.3 مليون طلب براءة اختراع أي 40 في المائة من اجمالي الطلبات عام 2018".
وأكدت أن هذا النمو الضخم والملحوظ في عدد براءات الاختراعات في الصين، يعد معيارا ضمن مجموعة من المعايير الرئيسة لقياس مدى مساهمة دولة ما في مجال الابتكار، ويرجع البعض القفزة الصينية في مجال براءة الاختراعات إلى إدراك القيادة الصينية أن توسع القوة العاملة والدور الإيجابي الذي لعبته في النمو الاقتصادي يتلاشى، إذ سمح النمو المتواصل للطبقة العاملة الصينية بتوفير أيد عاملة بتكلفة زهيدة.
وأضافت أن "ذلك خفض تكلفة المنتجات الصينية وجعلها قادرة على المنافسة عالميا"، كما أن الاستثمار الضخم لرأس المال ودوره في زيادة معدلات النمو يتقلص أيضا، بما يعنيه ذلك من افتقاد الأسواق المحلية لجاذبيتها بالنسبة إلى الاستثمارات المحلية والدولية.
لكن البعض يرجع تلك القفزة إلى ما يعدونه تساهلا صينيا بمنح براءات الاختراع، ويعتقد أن الجهات المسؤولة عن تسجيل براءات الاختراع تمنحها بناء على مجموعة من الخصائص تعد - في نظر البعض - أكثر تساهلا من نظيرتها في الدول المتقدمة، إذ يتم تصنيف براءات الاختراع في الصين إلى ثلاث فئات هي براءات اختراع "مبتكرة للغاية" و"نموذج منفعة" و"تصميم"، وتتطلب الفئتان الأخيرتان مستوى ابتكار أقل بكثير من نظيرتهما في الدول الأكثر تقدما.
ويشير الباحث في مجال العلوم التطبيقية آر . جي . ديكسون من مجلس الأبحاث التكنولوجية إلى أن الابتكارات الصينية تتمتع بعمر افتراضي أقصر بشكل ملحوظ مقارنة بنظيرتها في الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وبريطانيا.
ويقول "براءات الاختراع ذات العمر الأطول أكثر قيمة، لأن أصحابها يدفعون رسوما متكررة إذا كانت براءة الاختراع تستحق التمسك بها، فخلال الفترة من 2013 إلى 2017 تم تجاهل 37 في المائة من براءات الاختراعات المسجلة في الصين مقارنة بـ15 في المائة في الولايات المتحدة".
على أي حال تلعب نوعية براءات الاختراع دورا مهما في هذا المجال، وهو ما توليه الاستراتيجية الصينية الحالية مزيدا من الاهتمام، فالنوعية هي العامل الرئيس في سوق العرض والطلب العالمي في مجال الابتكارات، وتسمح بتحقيق أرباح ضخمة من المبيعات.
وبين عامي 2008-2018 دفعت الصين 185.2 مليار دولار لشراء حقوق الملكية الفكرية من كيانات أجنبية، في المقابل لم تحقق من مبيعات الملكية الفكرية الخاصة بها إلا 12.2 مليار دولار فقط من المبيعات الخارجية، بينما حققت الولايات المتحدة الأمريكية أرباحا نتيجة بيع براءات الاختراع نحو 128 مليار دولار واليابان نحو 41 مليار دولار عام 2017.
وفقا لذلك يرى كثير من الخبراء أن الصين أحد المنافسين في مجال الابتكارات على المستوى العالمي، لكن لا يزال أمامها طريق طويل تقطعه لتدخل ضمن القيادات العالمية في مجال الابتكار.
ويرى الدكتور الين كلارك أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة أكسفورد أن الصين تدرك بقوة أهمية الابتكار كوسيلة لتحقيق طموحها في قيادة الاقتصاد الدولي، وأنها تعمل على تذليل الصعوبات التي تحول دون ذلك.
وفي هذا السياق يقول "الافتقار إلى الطابع المؤسسي الذي يساعد على تعزيز التعاون الصحي بين القطاعين العام والخاص ويساعد على النمو وإنجاز مزيد من الابتكارات النوعية يعد التحدي الأكبر أمام الاستراتيجية الصينية في مجال البحث والتطوير".
وأكد أنه يضاف إلى ذلك أهمية تعزيز الشراكة الدولية مع الدول الأخرى، أو ما يعرف ببراءات الاختراعات الثلاثية، حيث تعد براءات الاختراع المودوعة بشكل مشترك بين الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي المعيار الذهبي بين براءات الاختراعات، إذ تدر إيرادات وتباع بأسعار أعلى بكثير من غيرها من أنواع براءات الاختراع الأخرى، ويتطلب ذلك من الصين مزيدا من الإجراءات القانونية لحماية الملكية الفكرية.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من أخبار اقتصادية- عالمية