Author

وباء الجوع ينافس كورونا

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"الملايين يعانون الجوع، ويجب أن نتحرك لإنقاذ الأرواح"
أنطونيو جوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة

كانت الحرب على الجوع قبل تفشي فيروس كورونا المستجد تحقق قفزات نوعية، وإن شهدت بعض التعثر في مراحل محددة. لا أحد كان يتوقع أن تنتهي هذه الحرب بسرعة. فأزمة الجوع عميقة تعود إلى عقود، إن لم نقل قرونا من الزمن، لكن مع الجهود الدولية التي بذلت في العقدين الماضيين، تمكنت برامج الأمم المتحدة والبرامج الأخرى المؤازرة لها من قبل مؤسسات المجتمع المدني، أن تتقدم في هذا الميدان. وبعد الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في 2008، تلقت البرامج المشار إليها التمويل اللازم، بينما وضعت مجموعة العشرين التي أخذت زمام المبادرة منذ عشرة أعوام تقريبا بند الجوع ومشكلاته، بل مصائبه ضمن أولوياتها. تجلى ذلك في اتخاذها سلسلة من الإجراءات في هذا المجال، في أعقاب تفشي كورونا.
لا شك أن الوباء كثف نقاط الضعف والقصور في أنظمة الغذاء العالمية، الأمر الذي يشير إلى أن هذه الأنظمة لا تزال "رغم كل النجاحات السابقة" في طور الوصول إلى مرحلة التمكين. وهذه أيضا تتطلب زمنا طويلا في ظل المشكلات التي مر بها الاقتصاد العالمي ككل، والأزمات الكبرى والصغرى التي تضربه بين الحين والآخر. صحيح أن عدد الأشخاص الذين يعانون الجوع في مناطق متفرقة من العالم تراجع بعض الشيء في الأعوام القليلة الماضية، لكن الصحيح أن هذا العدد يقفز إلى الأعلى من جديد عند أي مطب اقتصادي معيشي عالمي أو محلي. من هنا، يمكن القول إن الاستراتيجية العالمية لمواجهة الجوع ودعم حراك الإنتاج الغذائي، كانت أقل متانة وقوة من المطبات التي تواجهها في هذا الميدان الإنساني الحيوي.
مع تفشي جائحة كورونا، يتجه العالم بصورة لم يسبق لها مثيل نحو أزمة جوع ضاربة. الخبراء في هذا المجال يتوقعون وفاة أكثر من 132 مليون شخص بسبب الجوع على مستوى العالم، قبل نهاية العام الجاري. وهذا العدد الهائل يزيد في الواقع ثلاثة أمثال متوسط الزيادة السنوية في العقد الأول من القرن الحالي. السبب معروف، وهو ينحصر في أن كورونا أحدثت اضطرابا في سلاسل توريد المواد الغذائية والحراك الاقتصادي بشكل عام، الأمر الذي أدى إلى تقويض القدرة الشرائية عند المستهلكين حتى في الدول المتقدمة. ففي بداية العام الجاري، ارتفع عدد الأشخاص في دول مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا والولايات المتحدة وغيرها، الذين لجأوا إلى المعونات الغذائية الخيرية، لعدم قدرتهم بالفعل على شرائها من دخولهم. حتى إن "بنوك الغذاء" صارت جزءا أصيلا من حراك المجتمع هنا وهناك.
وإذا كان الأمر بهذه الصورة في دول تتمتع بأكبر اقتصادات على مستوى العالم، فعلينا أن نتخيل الوضع في الدول النامية أو تلك التي تحمل توصيف الأشد فقرا. واستنادا إلى خبراء دوليين يعملون في برامج الغذاء العالمية الحكومية والمدنية، فإن عدد الوفيات اليومية عالميا بسبب الجوع الناجم عن تداعيات كورونا سيزيد على عدد الوفيات الناجمة عن الإصابة بالفيروس نفسه! أي إن الجوع ليس إلا وباء يتقدم بخطورته ومآسيه ومصائبه ومشكلاته البيئية بما في ذلك كورونا الذي يعد الأقوى منذ قرن من الزمن على الأقل. والمشكلة الأبرز، أن العالم لا يزال عاجزا حتى اليوم عن مواجهة حاسمة مع هذه الجائحة، بل لا تزال هناك إمكانية لموجة ثانية من كورونا تعتقد بعض الجهات أنها ستكون أقوى من الأولى.
القارة الإفريقية تتصدر المناطق الأكثر تضررا على صعيد الجوع. فوفق الأمم المتحدة، يعاني 19.1 في المائة من سكانها من سوء التغذية، تليها آسيا بنسبة 8.3 في المائة، وأمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي بمعدل 7.4 في المائة. الجائحة القاتلة التي جلبت معها ركودا اقتصاديا هو الأعمق منذ أكثر من 80 عاما، ضربت معها بالطبع التنمية في كل مكان تقريبا، بما في ذلك التمويل اللازم لدعم برامج الأمم المتحدة في كثير من المجالات. وبسبب ذلك، فإن هدف التنمية المستدامة الهادفة للقضاء على الجوع والفقر والعوز بحلول 2030، صار أمرا مشكوكا فيه، وفق كل المشرفين على البرامج التنموية الإنسانية. فالأعباء الاقتصادية على كاهل أكثر من 200 دولة تتعاظم، بما في ذلك ارتفاع معدلات البطالة وزيادة حالات الإفلاس، ووصول الديون الحكومية إلى أعلى مستوياتها، إلى آخر أشكال الركود الاقتصادي الذي يخشى العالم من أن يتحول إلى كساد في مرحلة لاحقة.
نحن أمام مرحلة هي الأصعب على صعيد الجوع والفقر منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. وإذا كان بالإمكان تأجيل قضية الديون إلى مرحلة الرخاء أو الازدهار أو الانفراج، فلا يمكن تأجيل مصيبة الجوع إلى مرحلة لاحقة، لأن "وباء الجوع" يحصد الأرواح، بصورة قد يتفوق بها على الجائحة نفسها في هذه الساحة المأساوية. المسؤولية عالمية بالطبع، والمصيبة نالت من الجميع تقريبا. فلا يعقل أن يشهد هذا الزمن موتا من فرط الجوع!
إنشرها