Author

العجز الكبير والكساد الكبير

|

 
يواجه الاقتصاد الأمريكي، الذي اعتاد على التعافي بشكل سريع، في الوقت الراهن أطول الأزمات في التاريخ، إذ أثرت أزمة كورونا بشكل كبير في أقوى اقتصاد في العالم، ووجه فيروس كورونا ضربة قاسية للولايات المتحدة. ونتيجة لذلك شهد في الربع الثاني من 2020 أكبر ركود اقتصادي ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث انخفض الناتج المحلي الإجمالي 32.9 في المائة مقارنة بالفترة نفسها من عام 2019. وأسهم تراجع النشاط الاقتصادي ومعدلات البطالة المرتفعة في انخفاض الإيرادات الضريبية وارتفاع الإنفاق الحكومي، كما أن الولايات المتحدة تشهد انخفاضا في الاستهلاك والاستثمار في الأعمال التجارية والسكن. ومع أن الولايات المتحدة تمتعت دائما بمرونة جيدة من حيث سرعة التعافي الاقتصادي، لكن هذه المرة من المحتمل أن يغرق الاقتصاد الأمريكي بشكل أكبر في أزمة كورونا، قبل أن يبدأ في التعافي.

ومن هذه المقدمة البسيطة جاءت بيانات مكتب الإحصاءات الأمريكي (BEA) عن شهر تموز (يوليو) لتؤكد ارتفاع العجز التجاري الأمريكي إلى أعلى مستوياته منذ 2008 في تموز (يوليو) في ظل زيادة قياسية في الواردات، وذلك على أساس شهري، حيث قفز العجز التجاري 18.9 في المائة، إلى 63.6 مليار دولار في تموز (يوليو) وذلك مع ارتفاع الواردات في الشهر بمعدل تاريخي 10.9 في المائة، لتصل إلى 231.7 مليار دولار، في الوقت الذي لم تحقق الصادرات إلا 8.1 في المائة، لتصل إلى 168.1 مليار دولار. إن هذه الأرقام التي تبدو مقلقة للشأن الأمريكي إلا أنها مبشرة للآخرين. فهي بالنسبة للعالم تمثل انفراجا كبيرا ومؤشرا على تعافي الاقتصاد العالمي من جائحة كورونا وهنا يعلق مكتب الإحصاءات الأمريكي على هذه الأرقام باعتبار أنها تمثل خروجا من أزمة كورونا حيث عادت الصادرات والواردات للنمو في تموز (يوليو)، ولو أنها ظلت أقل من مستويات ما قبل الوباء، فالتأثير لم يزل مستمرا لـCOVID-19، حيث استمر عديد من الشركات في العمل بقدرة محدودة أو بعضها لم يزل متوقفا تماما عن العمل، كما ظلت حركة المسافرين عبر الحدود مقيدة، لكن رغم هذا التأثير المستمر فإن الاقتصاد الأمريكي يعطي مؤشرات تعاف مع عودة النمو لحركة السلع عبر التجارة العالمية، وهذا كان أحد أهم أهداف اجتماعات قمة "العشرين".

حيث أقرت القمة قرارات وتوصيات ببقاء الحدود مفتوحة أمام التجارة وحركة السلع لأن ذلك هو الضمانة الأساسية لعدم اتساع تأثير الجائحة في الهيكل الصناعي وسلاسل الإمداد، ورغم أن الاحترازات التي قامت بها الدول من حيث إيقاف الرحلات الدولية للمسافرين عبر الحدود، وأيضا إيقاف عديد من الأنشطة الاقتصادية بشكل كامل قد أثرت في مستويات الطلب العالمي، لكن عودة النمو للصادرات والواردات الأمريكية تؤكد أن التعافي سهل جدا فيما لو عادت كل الأنشطة الاقتصادية إلى مستوياتها قبل الأزمة، وهذا دون شك مبشر جدا، والأرقام تشير إلى عودة قد تكون أسرع بكثير مما هو متوقع قبلا، فبيانات مكتب الإحصاءات الأمريكي تعد مبشرة جدا للاقتصاد العالمي وأن هياكل التجارة العالمية وحركة السلع لم تتأثر بشكل خطير. فالنمو في الواردات الأمريكية بلغ أعلى مستوياته بمعدل تجاوز 10 في المائة، كما أن الصادرات عادت للنمو مجددا. ولأن السوق الأمريكية تعد أكبر مشتر صاف في العالم فإن هذا النمو يعد واعدا للجميع.

إن هذه المبشرات على الاقتصاد العالمي لا يبدو أنها جاءت بالصورة نفسها بالنسبة لصناع القرار الأمريكيين، فنمو العجز في الميزان التجاري بهذا الشكل يشير إلى أن عودة الصناعة والمصانع الأمريكية للعمل لم تزل متأثرة بالجائحة، فرغم نمو الصادرات إلا أن وزارة العمل الأمريكية قد أعلنت تسجيل 881 ألف طلب إعانة بطالة في الولايات المتحدة خلال الأسبوع الأخير من آب (أغسطس) الماضي. وكان قد تم تسجيل مليون طلب إعانة في الأسبوع الذي سبق الأسبوع الماضي، ولم يزل رقم البطالة عند أعلى مستوياته بعدما بلغ 10.2 في المائة، في وقت كان معدل البطالة يبلغ 3.5 في المائة قبل بدء تفشي فيروس كورونا.

فعودة التجارة عبر الحدود مبشر لكن نمو العجز يجعل عودة الوظائف محل شك، وهذا قد يفاقم من مشكلة المفاوضات التجارية، فالضغوط على الإدارة الأمريكية في الداخل تتزايد دون شك، فهذا التزايد في معدلات البطالة يرفع من طلبات الإعانة كما أنه يخفض القوة الشرائية عموما وهذا يؤثر سلبا في مجهودات الإدارة الأمريكية في السيطرة على عجز الميزانية الاتحادية الذي وصل حسب بيانات منشورة إلى 16 في المائة من إجمالي الناتج المحلي خلال العام الحالي، وهو أكبر معدل عجز في الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، كما أن معدل الدين العام الأمريكي سيتجاوز 100 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للولايات المتحدة خلال العام المقبل. إضافة إلى أن الصراع التجاري مع الصين خاصة قد يتفاقم في الأيام المقبلة وهو ما لا يريده العالم خصوصا في هذه الفترة الحرجة من التعافي البطيء الذي يحتاج الاقتصاد العالمي في التعامل معه إلى مزيد من الثقة والتعاون.

إنشرها