Author

دراما الفقر في عصر الوباء

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"وباء كورونا يهدد بنسف ما تحقق في محاربة الفقر، ويهدد بتفاقم الصراعات وتوليد نزاعات جديدة"
أنطونيو جوتيريش، أمين عام الأمم المتحدة

تتفاعل التأثيرات التي يتركها وباء كورونا المستجد في العالم، بصورة كبيرة ومتصاعدة في ميدان الفقر. وهذا الميدان يشكل منذ عقود هما حاضرا للمجتمع الدولي برمته. وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة حققت قفزات نوعية على صعيد محاربة الفقر في العقود الماضية، إلا أنها حتى قبل انفجار الوباء القاتل، لم تصل بعد إلى المستوى المأمول في هذا المجال. وهي تعترف ومعها المنظمات ذات الصلة التابعة لها بوجود ثغرات في الحرب على الفقر، وتتحرك على مختلف الصعد من أجل سدها. لكن في النهاية حققت البرامج التي وضعتها لخفض معدلات الفقر انتصارات ليست ساحقة، لكنها جيدة في مناطق مختلفة من العالم، وتمكنت هذه البرامج من استقطاب الممولين والمتحمسين لها، سواء على صعيد الدول، أو على ساحة المؤسسات الدولية المختلفة بما فيها الخاصة منها.
مع تفشي كورونا مطلع العام الجاري تلقت برامج مكافحة الفقر ضربات كبيرة، ليس فقط بسبب نقص التمويل اللازم، بل لأن هذا الوباء وجد الساحات الملائمة له في المناطق الفقيرة، التي تعاني نقص الرعاية الصحية وبرامج التوعية، وقلة الأدوات اللازمة للوقاية من هذا الوباء. أضف إلى ذلك معاناة بعض المناطق التي تشهد ارتفاعا كبيرا في معدلات الفقر، تفتقر حتى لمياه الشرب النقية، بل تعاني نقصا هائلا في مواد التنظيف بما فيها الصابون، الذي يفترض أنه من الأكثر المواد سهولة في الوصول إليه. كل هذا رفع من مستوى الفقر بفعل كورونا. فحتى الدخل الأدنى لشرائح الفقراء من الدخل اليومي، استهلكت نسبة كبيرة منه، للإنفاق على هذه المواد، ما أحدث فجوة في تلبية الاحتياجات الغذائية الأساسية.
الفقر ليس حكرا على منطقة أو دولة أو إقليم. إنه موجود في كل دول العالم. فحتى في الدول المتقدمة هناك نسبة متصاعدة من الفقراء، لكنها تبقى في النطاق الأكثر إنسانية، مقارنة بالفقراء في دول فقيرة أصلا، وتعاني أزمات اقتصادية متلاحقة. فضلا عن أن هناك منظمات مجتمع مدني فاعلة في الدول المتقدمة، تقوم بدور محوري للحد من الفقر، جنبا إلى جنب الأدوات الحكومية في هذا المجال. ورأينا في خضم أزمة كورونا كيف قام الناشطون من هذه المنظمات بتوفير الغذاء والدواء وطعام الأطفال، وكل المواد الأساسية. بل انضمت إليهم المتاجر الكبرى والصغرى والمطاعم، لتلبية النقص الغذائي والصحي اللازم. واشتركت أيضا محال بيع الألعاب للأطفال في عمليات التبرعات هذه.
الأمر ليس كذلك بالطبع في الدول التي تعاني الفقر، خصوصا تلك التي تتصف بالأشد فقرا. فالبنك الدولي جدد أخيرا توقعاته لمستوى الفقر في الدول النامية، بتحذيرات واضحة من مغبة دفع الوباء 100 مليون شخص إلى فقر مدقع. كانت التقديرات في بداية أزمة هذا الوباء في حدود 60 مليون شخص، أما الآن فإن هذه المؤسسة الدولية تحذر من تجاوز عدد هؤلاء حاجز الـ 100 مليون إذا ما تفاقم كورونا أو طال أمده. كل المؤشرات لا تزال تدل على إمكانية تفاقم الوباء وهذا ما بدا واضحا من خلال إعادة كثير من الدول إغلاق حراكها المجتمعي والاقتصادي، إلى جانب فشل العالم حتى اليوم من العثور على لقاح يقضي عليه. وهذا يعني - ببساطة - أن عدد الفقراء في الدول النامية سيرتفع أكثر وسيتحول الفقراء إلى فقر مدقع. الحلول ليست سهلة بالطبع، ولا توجد مشاريع واضحة لوقف تداعي مستوى الفقر إلى أدنى، ولا سيما في ظل الاضطراب الاقتصادي العالمي الراهن، الذي يعج بعمليات إنقاذ للمؤسسات والشركات، إلى جانب ارتفاع تاريخي للديون الحكومية في أغلب الدول. فعلى سبيل المثال، وصل الدين العام البريطاني إلى تريليوني جنيه استرليني قبل أيام، لأول مرة منذ خمسة عقود. "مجموعة العشرين" التي اتخذت زمام المبادرة العالمية منذ الأزمة الاقتصادية الكبرى عام 2008، خصصت بالفعل ما يقرب من خمسة تريليونات دولار لإغاثة الاقتصاد العالمي، واتخذت سلسلة من الإجراءات لدعم الدول الفقيرة، خصوصا تلك الأشد فقرا. وهذه خطوة مهمة جدا جاءت في الشهر الثالث من العام الحالي. لكن حتى اليوم لم يتوقف تدهور وضع الفقر في الدول النامية.
من هنا، يمكن النظر إلى دعوة البنك الدولي الدائنين، إلى خفض مقدار الديون التي تتحملها الدول الفقيرة المعرضة للخطر. ما يعني أن تجميد هذه الديون ليس كافيا من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه في هذه الدول، والحد من دراما الفقر فيها. والإبقاء على المستوى الحالي للديون حتى في ظل تجميد نسبة كبيرة من الفوائد عليها، لا يرفع عدد الفقراء فحسب، بل يحرم دولا نامية بعينها من حراك استثماري جديد في المستقبل القريب، ويطرد تدريجيا المستثمرين فيها. من هنا، فإن إعادة جدولة الديون تحقق مجموعة من الأهداف في آن معا، خصوصا الهدف المحوري، وهو عدم اتساع رقعة الفقراء في هذا البلد أو ذاك.
إنشرها