Author

التشوه الاقتصادي «3»

|
في هذا المقال سأتطرق إلى الجزء الثالث من الأمثلة للتشوه الاقتصادي وهنا سأتكلم عن عنصر الإنتاج البشري، الذي يعد العنصر الحيوي والأساس لقيام أي اقتصاد، وكلما كان المجتمع حيويا زادت افتراضية فاعليته وقدرته العالية على الإنتاج، مشروطة بتأهيل هذه القدرات وتعليمها الصحيح والمتقدم لتكون قادرة على المنافسة والإبداع والإنتاج، لدينا في السعودية الإمكانات الحيوية المطلوبة لإيجاد رأسمال بشري منتج، عدد السعوديين حسب إحصاءات عام 2018 يبلغ 20 مليونا و700 ألف نسمة يمثل الشباب من هم تحت سن 30 عاما ما يقارب 59 في المائة ، ومن هم تحت 24 عاما يبلغون 50 في المائة تقريبا، هذا يدل على حيوية المجتمع كالجيلين الحالي والقادم، وهم من يستطيع المشاركة بفاعلية في رفع الإنتاجية إذا تم تأهيلهم واستغلال طاقاتهم الإنتاجية بشكل سليم. والسؤال المهم هنا هل نحن في الاتجاه الصحيح نحو الاستفادة من هذه الطاقات؟ أعتقد أننا لم نحقق الطموح بعد.
عندما تم إطلاق أول برنامج من برامج الرؤية وهو برنامج التحول الوطني، حمل في نسخته الأولى عددا كبيرا جدا من المبادرات التي تهدف إلى تحسين أداء القطاعات الحكومية ورفع كفاءتها، كان منها هدف مهم وهو تخفيض عدد الموظفين في القطاع العام وبالأخص الخدمة المدنية (سابقا) بنحو 20 في المائة وتخفيض تكلفة الرواتب بالمقدار نفسه، وفي مبادرة أخرى لوزارة المالية كان مستهدفا خفض بند الرواتب والأجور في الميزانية من 480 مليارا إلى 456 مليارا وبالتالي تكون نسبتها من الميزانية بحدود 40 في المائة بدلا من 45 في المائة كل هذه الأرقام المذكورة مستهدفة في عام 2020.
في تصوري كانت هذه المستهدفات مهمة جدا وتعطي تصورا عن أهمية التركيز على القطاع الخاص لتمكينه من توفير الوظائف التي من المفترض أن تكون عوائدها الاقتصادية عالية، لكن ما حصل هو أن الأجهزة الحكومية توسعت في التوظيف خصوصا مع إنشاء الهيئات الكثيرة بل زاد من وقع المشكلة التوجه إلى استقطاب الموظفين من القطاع الخاص بطريقة غير مناسبة ما أدى إلى رفع عروض الاستقطاب بشكل مبالغ فيه ما أعطى كثيرا منهم عروضا أعلى بكثير مما يتقاضاه في القطاع الخاص وهو الأقرب للواقع في واقعية الأجور، بل وصل بعضهم إلى عروض الضعف أو الضعفين في بعض الأحيان، طبعا لا يوجد أحد يشكك في مدى فاعلية استقطاب الخبرات خصوصا من لديهم خبرة واضحة وكبيرة لكن بعروض مقبولة، لكن الملاحظ استقطاب موظفين وموظفات ذوي خبرات ضعيفة وبسيطة جدا، وكذلك لا أحد يعارض توظيفهم لكن يجب أن يكون وفق معايير واضحة ومنطقية، لكن حصيلة كل هذه الممارسات أدت إلى استمرار وضع الجهاز الحكومي على ما كان عليه، ما أدى إلى تضخم أكبر في بند الرواتب، أدت إلى منافسة غير صحية وغير مهنية مع القطاع الخاص، طبعا كل ما ذكرته لا ينطبق على موظفي الخدمة المدنية وهذا من جهة مشكلة لأنه أوجد تباينا عاليا جدا بين موظفين زميلين في الإدارة نفسها أحدهما مستقطب ويأخذ راتبا أعلى من زميله على الخدمة المدنية بأضعاف مضاعفة وقد يكون العمل متماثلا بينهما (لكن طبعا ليست هذه في كل الحالات) ولا يعقل أن يعتقد البعض أن هذا حسد فهو غير منطقي.
إن ممارسات بعض الأجهزة الحكومية في التوظيف غير سليمة ويجب أن تقنن وتضبط وإلا فإن هذا سيؤثر في مسار الميزانية، وعلى الجانب الآخر، نحن ننتظر من الجيلين الحالي والقادم أن يكونا ضمن منظومة القطاع الخاص، وهذا الهدف سيحقق أكثر من نتيجة منها، تحقيق هدف رفع مشاركة القطاع الخاص في الاقتصاد وذلك يتضح عبر توفيره هذه الوظائف المتوقعة، ثانيا تخفيف الحمل على الحكومة في توفير الوظائف وبالتالي تخفيف أعباء الميزانية، ثالثا من المفترض أن وظائف القطاع الخاص تكون إنتاجيتها الاقتصادية وفاعليتها أعلى بكثير من الوظائف الحكومية وهذا يحقق إصلاح التشوه الاقتصادي الحاصل اليوم عبر عدم استغلال الطاقات البشرية المنتجة بشكل صحيح إذا تم توظيف أغلبها داخل الأجهزة الحكومية.
ختاما هنالك أكثر من عشرة ملايين سعودي وسعودية قادمين إلى سوق العمل خلال الـ20 عاما القادمة فمن سيوفر وظائف لهم؟ الحكومة؟ طبعا غير سليم، إذن هو القطاع الخاص الذي يجب أن يقوم بدوره الحيوي ويجب أن يمكن ويساعد لينمو وينافس ويوفر هذه الوظائف ويتم استغلال العشرة ملايين موظف من الشباب والشابات بشكل مناسب حتى تسهم هذه الطاقات الشابة المتعلمة المؤهلة في دعم اقتصاد منافس منتج ويتم مسح وإلغاء كثير من التشوهات في سوق العمل وفي الاقتصاد بشكل عام إضافة إلى القادمين الجدد هنالك معدل بطالة اليوم (بحدود 12 في المائة) وهذا يؤكد وجود تشوه في سوق العمل حتى نتمكن من تحقيق المستهدف الاقتصادي وهو التوظيف الكامل Full Employment وهو ما يستدعي معالجة الخلل بشكل سريع وفعال بتفعيل التخصيص وإطلاق القطاعات الجديدة مثل السياحة والترفيه والخدمات بشكل عام (وهي من أكثر القطاعات في توليد الوظائف) وبالتأكيد القطاعات الصناعية والمعرفية والتقنية.
إنشرها