Author

أعاصير «بريكست» وكورونا تضرب بريطانيا

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"هناك أشياء علينا القيام بها الآن، وكان ينبغي القيام بها منذ عقود"
بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني
لم يهنأ بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني بالحكم منذ وصوله إليه. ولم يحمه انتصاره الساحق في الانتخابات العامة التي جرت أواخر العام الماضي من الأزمات المتلاحقة على بلاده، وحكومته نفسها. المملكة المتحدة تصدرت بقوة قائمة الدول الأوروبية الأكثر خسائر صحية واقتصادية من جراء تفشي وباء كورونا المستجد، وهي التي كانت تعتقد في البداية بأن حدودها المائية الطبيعية التي تفصلها عن العالم وأوروبا ستقلل آثار هذه الجائحة القاتلة، وبأن رفضها التاريخي فتح حدودها مع الاتحاد الأوروبي بالكامل سيسهم في خفض هذه الآثار، ولا سيما وجودها خارج حدود منطقة شينجن الأوروبية، وبأن الإجراءات التي تتخذ حاليا للانفصال عن هذا الاتحاد - وفق قرارها بالانسحاب منه "بريكست" - ستفيد بصورة أو أخرى في حمايتها من امتداد الوباء. بريطانيا أغلقت اقتصادها، كما بقية الدول، لكنها تقدمت على جميع شركائها الأوروبيين على صعيد الأضرار، التي وصفها ريتشي سوناك، وزير المالية، بأنها ناجمة عن ركود هو الأعنف والأعمق منذ 300 عام.
ولهذا السبب، سجل اقتصاد المملكة المتحدة انكماشا قياسيا بلغت نسبته 20.4 في المائة في الربع الثاني من العام الجاري. يأتي ذلك رغم كل عمليات الإنقاذ الحكومية التي لم تتوقف، ومع اتباع استراتيجية اقتصادية تحافظ على ما أمكن من المؤسسات والشركات، بما في ذلك دعم الصغيرة والمتوسطة منها عبر قروض ميسرة بلا فائدة، وقيام الحكومة بتسديد رواتب العاملين فيها إلى حدود بلغت 80 في المائة. ووفق المعايير الاقتصادية فإن أي دولة تدخل في مرحلة ركود تقني عندما تسجل انكماشا اقتصاديا على مدى ربعين متتاليين. في حين أن مكتب الإحصاء الوطني لم يعط أي إشارات إيجابية ذات قيمة عن المرحلة المقبلة التي سيمر بها الاقتصاد البريطاني مع ارتفاع تاريخي أيضا لمعدلات البطالة، وارتفاع متصاعد للشركات التي خرجت بالفعل من السوق نهائيا.
كان هناك جانب مضيء بعض الشيء إلا أنه ليس مضمونا على الإطلاق، عندما انتعش الناتج المحلي الإجمالي في أيار (مايو) الماضي بنسبة 2.4 في المائة، وبلغ 8.7 في المائة في الشهر الذي تلاه. وكان السبب الوحيد وراء ذلك هو إعادة فتح كل القطاعات التي أغلقتها الحكومة لمدة تزيد على ثلاثة أشهر. وهذا كان متوقعا، إلا أن المؤشرات كلها تدل على أن مرحلة الخروج من الركود لن تنتهي قبل حلول العام المقبل، والاحتمالات الأقرب إلى الواقع أن هذه المرحلة لن تبدأ قبل نهاية عام 2021. ما يعني أن الضغوط على حكومة جونسون ستكون كبيرة، بل ستتعاظم في وقت ليس مناسبا أبدا، وفي ظل جائحة لا يمكن السيطرة عليها بعد، إلى درجة أن بعض الدول التي فتحت اقتصاداتها أقدمت على إغلاق قطاعات بعينها بعد ذلك بأسابيع قليلة.
والوقت صار غير مناسب لأن بريطانيا تستكمل حاليا إجراءات الانفصال النهائي عن الاتحاد الأوروبي. فهذا الانسحاب سيكبد اقتصادها خسائر كبيرة اعترفت بها الحكومة قبل تفشي وباء كورونا، وعلينا أن نتخيل حجم هذه الخسائر نتيجة اتحادها مع تلك الناجمة عن الوباء المشار إليه. فعمليات إلغاء الوظائف مثلا بسبب "بريكست" بدأت قبل عام تقريبا ومتواصلة حتى حلول نهاية العام الجاري، وتقدر هذه الوظائف بمئات الآلاف على المديين القصير والمتوسط، في حين تم إلغاء 730 ألف وظيفة في البلاد في ستة أشهر فقط نتيجة ضربات كورونا. في حين حذر بنك إنجلترا المركزي من ارتفاع معدل البطالة إلى نحو 7.5 في المائة بنهاية عام 2020. دون أن ننسى أن عمليات الإنقاذ الحكومية ليست مفتوحة إلى ما لا نهاية. ففي الربع الثالث، تعتزم شركة من كل ثلاث شركات إلغاء وظائف في الربع الثالث، أي إن الأمور تتجه للأسوأ في هذا الميدان المحوري.
هناك كثير من الميادين التي تعرضت وستتعرض للأضرار الفادحة في بريطانيا. حتى عدد المساكن الجديدة سينخفض بنسبة 40 في المائة بسبب الجائحة العالمية. كل هذا يأتي في ظل عدم وضوح الرؤية حول مستقبل العلاقة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. فإذا فشل الطرفان من الآن حتى تشرين الأول (أكتوبر) المقبل في التوصل إلى اتفاقية تجارية واضحة، فإن الأضرار التي ستلحق بلندن ستكون أكبر من تلك التي ستصيب جيرانها أو شركاءها السابقين، بينما لم تتمكن حكومة جونسون بعد من عقد اتفاقات اقتصادية منفردة مع الدول خارج الاتحاد الأوروبي، بسبب العقدة الأوروبية الراهنة التي لم تحل بعد. وهذا ما يخشى منه المؤيدون والمعارضون لـ "بريكست" على الساحة البريطانية.
لم تستطع بريطانيا أن تحمي نفسها كما ينبغي من أزمة كورونا، بسبب تأخرها في التعاطي مع هذه الأزمة، وهي الآن عاجزة حتى عن عقد اتفاقات تجارية إذا ما فشلت مفاوضاتها مع الأوروبيين. كل هذا يضيف أضرارا تلو الأخرى إلى اقتصادها، مع تفاقم حالة عدم اليقين.
إنشرها