FINANCIAL TIMES

لبنان .. وطن جثا على ركبتيه

لبنان .. وطن جثا على ركبتيه

استغرق تدمير بيروت 15 عاما من المذابح الطائفية خلال الحرب الأهلية اللبنانية في الفترة 1975-1990، و15 عاما أخرى لإعادة بنائها. كل هذا تحول إلى خراب مرة أخرى في غضون 15 ثانية بالكاد. عانى اللبنانيون حروبا، واجتياحات، واحتلالا من قبل إسرائيل وسورية، وضربات جوية وسيارات مفخخة. والآن هذا.
الانفجار الضخم الذي وقع الثلاثاء في ميناء بيروت مزق مساحات شاسعة من قلب المدينة. الحرب الأهلية تركت عددا من الهياكل التي دمرتها القذائف، مثل فندق هوليداي إن القديم، ليشوه أفق بيروت التي أعيد بناؤها. هذه الكارثة دمرت المباني في جميع أنحاء وسط المدينة والخط الساحلي وشرقي المدينة. قتل ما لا يقل عن 150 شخصا، مع توقع عدد أكبر، ونحو خمسة آلاف جريح. تقدر السلطات البلدية أن 300 ألف شخص فقدوا منازلهم.
بينما تستمر التكهنات بخصوص مؤامرة حول الهجوم، فإن السبب المحتمل أمر عادي بشكل مرعب. تم تخزين نحو 2750 طنا من نترات الأمونيوم شديدة الاحتراق - المستخدمة في صناعة الأسمدة والمتفجرات – في العنبر رقم 12 في الميناء، وربما اشتعلت فيها النيران بسبب حريق وانفجار في العنبر رقم 9 القريب.
بعض سكان بيروت الذين هم على مسافة لا بأس بها في الداخل من الانفجار ظنوا في البداية أنها سيارات مفخخة، ربما كانت متعلقة بحكم كان من المقرر إصداره هذا الأسبوع من محكمة دولية في لاهاي، حيث كان أربعة أعضاء من حزب الله، الحركة الشيعية شبه العسكرية المدعومة من إيران، قد حوكموا غيابيا بتهمة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، في انفجار شاحنة مفخخة ضخمة على الواجهة البحرية لبيروت في 2005.
لكن الانفجار الأخير، الذي حطم النوافذ والأبواب في جميع أنحاء المدينة وملأ الشوارع بالأشخاص المذهولين والجرحى، كان هائلا. ولا توجد سيارة مفخخة تصنع سحابة "عيش الغراب" التي أثارت الرعب في كل من رآها.
بيروت لديها أكثر من نصيبها من الصدمات. قبل مقتل الحريري، رئيس الوزراء الذي أعاد بناء المدينة بعد الحرب، تم تفجير رينيه معوض ـ الرئيس الذي كان من المفترض أن يعيد توحيد لبنان في نهاية الحرب الأهلية ـ في انفجار ضخم بسيارة مفخخة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1989. في 1982، الرئيس المنتخب وزعيم الميليشيا المسيحية، بشير الجميل، قتل حين انهار مبنى كان يوجد بداخله.
طوال فترة الحرب الأهلية استخدم السوريون والعراقيون والليبيون والإيرانيون والإسرائيليون بيروت عنوانا مفضلا للتواصل عن طريق السيارات المفخخة. تخبطت القوى الغربية التي شعرت بالقلق، بقيادة الولايات المتحدة وفرنسا، وسرعان ما تم تفجيرها بشاحنة: تم تفجير 241 من مشاة البحرية الأمريكية و58 مظليا فرنسيا في 1983 بالقرب من المطار في هجمات انتحارية شنها حزب الله، دمرت أيضا السفارة الأمريكية على كورنيش بيروت. لكن لم تكن هناك سحب عيش الغراب.
في الوقت الذي يتم فيه استبدال ضجيج الفوضى المرورية ومولدات الكهرباء الصاخبة التي تبدأ عند انقطاع التيار الكهربائي كل ساعة تقريبا، بالضوضاء المحيطة من خلال الصوت المنتشر لتكسير الزجاج الذي يكسو المدينة الداخلية، من الصعب أن نتخيل كيف ستنتعش بيروت مرة أخرى من هذه الحادثة، أو كيف يتجنب لبنان أن يصبح دولة فاشلة.
محتجون غاضبون رشقوا وزير العدل بزجاجات المياه يوم الخميس، ورشقوا بالحجارة موكب سعد الحريري، رئيس الوزراء السابق الذي أجبر على الاستقالة في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. عندما زار الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، حيا مزقه الانفجار في بيروت يوم الخميس، توقف اللبنانيون عن إزالة الأنقاض من شوارعهم للتنفيس عن غضبهم من قادتهم، مرددين الشعار الشعبي الذي انطلق خلال الاحتجاجات الحاشدة العام الماضي، التي أجبرت الحكومة السابقة على الاستقالة: "الشعب يريد إسقاط النظام".
يقول ناصر السعيدي، وزير اقتصاد سابق ونائب محافظ البنك المركزي بعد الحرب: "الطبقة السياسية الفاسدة وصانعو السياسات المتذللون والمحاسيب ولدوا بؤسا غير مسبوق وانهيارا اقتصاديا ومصرفيا وماليا. فسادهم المستشري وإهمالهم الإجرامي وعدم كفاءتهم أوصلت الآن كارثة أشبه بنهاية العالم إلى لبنان واللبنانيين".
عندما صمتت المدافع في 1990، معظم الميليشيات في الصراع المتغير الشكل بين المجتمعات المسيحية والسنية والشيعة والدرزية، وداخلها، كان لديها موانئها المؤقتة. ثم أعيد بناء مرفأ بيروت، ليصبح الأكثر نشاطا في شرق البحر الأبيض المتوسط. كان المشروع الذي جسده رفيق الحريري، وهو زعيم سني مدعوم من أوروبا والخليج، هو تحويل بيروت إلى سوق لرأس المال ومركزا للخدمات التجارية في الشرق الأوسط، بحيث تكون المدينة ملعبا إقليميا وميناؤها بوابة إلى بلاد الشام.
تلك الرؤية تجاهلت الجانب المظلم في لبنان – حالات التفاوت الهائلة في الثروة والفساد المستشري والنمط الإقطاعي للسلالات الطائفية المسيطرة على سياساته. كل هذا تقريبا تبخر مع موت الحريري، الذي من شبه المؤكد أنه بأمر من سورية وإيران. والقليل الذي تبقى منه تبخر هذا الأسبوع.
منذ القرن التاسع عشر، قبل سقوط ‏الإمبراطورية العثمانية بفترة طويلة، لعب لبنان دورا كبيرا في المشهد العربي. المسيحيون اللبنانيون الذين كانوا في كثير من الأحيان متحالفين مع المسلمين، كانوا في قلب النهضة القومية العربية، من المطبعة إلى الأكاديمية، ومن القومية إلى الطب. أبرم المسلمون والمسيحيون ميثاقا وطنيا أدى إلى استقلال لبنان عن فرنسا في 1943. والآن، يبدو لبنان وكأنه طائر الفينيق الأسطوري من الساحل الفينيقي القديم القادر دائما على الخروج من الرماد.
أولا، الدولة في حالة انهيار من أزمة ديون، وموازنة، وبنوك، وعملة، وأزمة اقتصادية معقدة. لبنان مفلس. وفقا لوزارة المالية، نظامها المصرفي أقرض 70 في المائة من أصوله للحكومة، إما بشكل مباشر وإما من خلال مصرف لبنان، البنك المركزي. تخلف لبنان عن سداد ديونه الخارجية في آذار (مارس) للمرة الأولى. لكن إجمالي الخسائر في النظام المصرفي، بما في ذلك البنك المركزي، تقدره الحكومة بنحو مرتين ونصف ضعف حجم الاقتصاد الذي يتقلص بسرعة كبيرة فوق الحد بحيث يتعذر قياسها.
ثلث اللبنانيين عاطلون عن العمل ويعيش نصفهم تحت خط الفقر. فقدت الليرة اللبنانية 80 في المائة من قيمتها منذ اندلاع الأزمة نتيجة تمرد على النخب السياسية في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. التضخم المفرط قريب. الطبقة الوسطى تغرق في الفقر والفقراء يدفعون إلى الفقر المدقع. حتى قبل الانفجار، توقع صندوق النقد الدولي انخفاضا بنسبة 13.8 في المائة في الناتج المحلي الإجمالي اللبناني هذا العام.
ثانيا، تفريغ المؤسسات اللبنانية من قبل قادة طائفيين يتعاملون مع الدولة كأنها غنيمة أصبح شبه مكتمل. حزب الله، المدعوم عسكريا من إيران وبسبب نجاحه في المعركة في الحرب الأهلية في سورية لإنقاذ نظام بشار الأسد من تمرد أغلبية من السنة، عزز قوته. في 2016 نصب الحزب ميشال عون، زعيم أكبر حزب مسيحي، رئيسا. وبعد ذلك بعامين، وبالتحالف مع أنصار عون وحركة أمل الشيعية المنافسة، فاز بأغلبية برلمانية تضفي شرعية صورية على ما فاز به بالقوة. مع وجود أشخاص متنفذين تابعين للحزب في الأجهزة الأمنية، فهو دولة فوق الدولة.
ثالثا، يستضيف لبنان ما يقدر بنحو 1.5 مليون لاجئ سوري، أي واحد من كل أربعة من السكان.
رابعا، كما لو أن هذا لم يكن كافيا، فإن حالة الطوارئ المرتبطة بكوفيد - 19 - على الرغم من أنه على أساس الأرقام الرسمية التي تعطي عددا أقل للوفيات في الوقت الحالي مما هي عليه في معظم الدول المجاورة ـ اعتصرت أي حياة متبقية من الاقتصاد.
أمراء الحرب التقليديون وكبار السن بالبدلات، والعائلات الطائفية، وأصحاب المليارات "الأوليجارك"، يتحملون المسؤولية عن الأزمتين الأوليين. كما لعبوا أيضا دورا في الأزمتين الأخريين، من حيث إنهم عادة ما يحتقرون الاستثمار في الرعاية العامة أو المصالح العامة - مثل المستشفيات الحكومية التي تئن تحت طوفان المرضى الآن.
ثم يأتي بعد ذلك كله محو كثير من بيروت هذا الأسبوع. حتى قبل ورود رواية رسمية عن سبب الانفجار، هناك مؤشرات على الإهمال على نطاق مذهل.
تم تفريغ مخزون نترات الأمونيوم من سفينة روسية غير صالحة للإبحار في 2014، وهو موجود منذ ستة أعوام، على الرغم من ست رسائل من سلطات الموانئ إلى محاكم بيروت تطلب إزالته.
لطالما كان سرا مكشوفا أن حزب الله يسيطر على قطاعات من مرفأ بيروت، كما يسيطر على المطار وعلى عديد من المعابر الحدودية، لأغراض استخلاص الإيرادات والتهريب - يقول مسؤولون غربيون وإقليميون إنه كدس ترسانة من مئات الصواريخ التي قدمتها إيران.
في الواقع، كجزء من المحادثات المشلولة الآن مع صندوق النقد الدولي بشأن حزمة إنقاذ، أصر الصندوق والمانحون الرئيسون مثل فرنسا على مجموعة من الإصلاحات، بما في ذلك إنهاء سيطرة حزب الله الخارجة عن القانون على الميناء.
نفى حسن نصر الله، زعيم حزب الله، يوم الجمعة بشكل مشاكس أي مسؤولية عن الكارثة. مثل معظم الطبقة الحاكمة في لبنان، كان صامتا في مواجهة حالة الطوارئ الرهيبة - ترك الغضب الشديد للمتطوعين لتنظيف الدمار بأنفسهم.
بعد هذا الأسبوع، لا مجال سوى أن ينمو الغضب ضد هذه العشائر السياسية التي لا تعامل أبناء شعبها باعتبارهم مواطنين أحرار ولكن تابعين متوسلين ومتضرعين. لا أحد يثق بالحكومة للتحقيق في مأساة يتواطأ فيها اللاعبون الأقوياء. هناك دعوات لإجراء تحقيق دولي لتجنب التستر.
قال ملحم خلف، رئيس نقابة المحامين في بيروت الذي يحظى بالاحترام، إن الحكومة تشن منذ الآن "هجوما وقائيا لتشويه سمعة القضاء وتعكير صفو المياه".
يقول أحد المسؤولين الدوليين: "تم تكليف هذه الحكومة بفعل شيء ما بشأن الإصلاح لكن النظام السياسي لا يريد أن يفعل ذلك. من الصعب جدا رؤية حل إذا بقي بعض اللاعبين الأساسيين في أماكنهم".
أصر ماكرون، الذي استقبل بحرارة يوم الخميس في شوارع بيروت، حيث لا يجرؤ أي سياسي لبناني تقريبا على الظهور، على أنه لن تكون هناك خطة إنقاذ دولية من دون إصلاحات حقيقية.
قال: "إذا لم يتم تنفيذ الإصلاحات، سيستمر لبنان في الغرق. المطلوب هنا هو التغيير السياسي. يجب أن يكون هذا الانفجار بداية حقبة جديدة ". وأضاف أن هناك حاجة إلى إجراء تدقيق شامل للبنك المركزي.
هذا يتطلب التنظيف السياسي الذي طالبت به الانتفاضة المدنية في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي - وحشد الأمة التي تم تركيعها.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES