Author

«بريكست» في النفق الأخطر

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"علينا الاستعداد لكل السيناريوهات المحتملة لمفاوضات بريكست"
ديفيد فروست، كبير المفاوضين البريطانيين
كل المؤشرات الراهنة تدل على أن بريطانيا ستخرج من الاتحاد الأوروبي "بريكست" بنهاية العام الجاري دون اتفاق تجاري. فالمفاوضات الجارية بينها وبين المفوضية الأوروبية متعثرة، بل صادفت مطبات خطيرة في الآونة الأخيرة، ومواقف الطرفين ليست مرنة، على عكس التصريحات التي كانت تصدر سابقا من المسؤولين على جانبي المفاوضات، والحكومة البريطانية لا تزال متمسكة بشعار: "لا اتفاق تجاري مع الاتحاد، أفضل من اتفاق سيئ". الأوروبيون يؤكدون علنا، أن فشل هذه المفاوضات التي يجب أن تنتهي في أواخر تشرين الأول (أكتوبر) المقبل تتحمله لندن، وأن أوروبا تقدم أفضل ما لديها لشريك كان جزءا أصيلا في الكيان الأوروبي. بل يمضي هؤلاء أبعد من ذلك، للتأكيد أن حكومة بوريس جونسون البريطانية تخطط أصلا لعدم الاتفاق، وأنها تخوض المفاوضات الراهنة، لأنها لا يمكن أن ترفضها.
الخلافات كثيرة، وهذا ليس غريبا، لأنها ظهرت حتى قبل بدء المفاوضات الرامية للتوقيع على اتفاق تجاري يحافظ قدر الإمكان على امتيازات الطرفين فيما بعد الخروج النهائي للمملكة المتحدة. لكن المسائل الخلافية المحورية، تظل محصورة في قضايا التجارة، والشكل الذي ستكون عليها العلاقات، وحقوق الصيد، وهذه نقطة حساسة جدا خصوصا بالنسبة للجانب البريطاني، ومسائل حماية البيانات. ويبدو واضحا أنها قضايا خلافية لدرجة أنها ستضرب الاتفاق المأمول برمته. فلا يمكن للاتحاد الأوروبي أن يمنح بريطانيا امتيازات وهي خارجه، بينما كانت هذه الامتيازات مصونة للجانب البريطاني قبل قرار الانسحاب من الاتحاد. ولذلك ترى تفاصيل مثل المساحة المائية التي يجب على البريطانيين الصيد فيها، وتلك التي لا يمكن للصيادين الأوروبيين الاقتراب منها. كما أن حماية البيانات تعني أن على المجال الحر للندن للاطلاع عليها سيتقلص، بحكم أنها باتت خارج التكتل.
لا شك أن بريطانيا مسرعة جدا في وتيرة المفاوضات المتعثرة، لأنها تريد أن تنتهي منها بأي شكل كان، كما ترغب في إثبات أنها مضت إلى آخر الخط للوصول إلى اتفاق تجاري مع أوروبا، ما سيبرر قرارها لاحقا باستكمال الانسحاب دون أي اتفاق. والحكومة البريطانية تروج أصلا منذ عام 2016 الذي شهد استفتاء "بريكست" وفاز الرافضون للاتحاد الأوروبي فيه، لاستعدادها الكامل للتعامل مع الاتحاد مستقبلا، وفق معايير وقوانين منظمة التجارة العالمية. وبدأت بالفعل بشكل متواضع محادثات مع دول خارج الاتحاد لعقد اتفاقات تجارية معها، ومن أبرزها الولايات المتحدة التي تشجع الانفصال البريطاني منذ وصول الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. فالذي يقود المرحلة الانتقالية والتفاوضية بشأن "بريكست" على الجانب البريطاني مجموعة من المسؤولين المعروفين بتشددهم المعلن ضد الاتحاد الأوروبي.
لكن الأمور لا يمكن أن تمضي هكذا في المستقبل القريب. فالجانب الأوروبي يرفض بقوة إلى درجة أنه لوح بعقوبات مستقبلية ضد المملكة المتحدة، وأن تكون هذه الأخيرة حرة على الصعيد التجاري مع بقية دول العالم، وفي الوقت نفسه تتمتع بامتيازات تجارية أوروبية. والأوروبيون لا يستطيعون في الواقع قبول هذا تحت أي ظرف كان. حتى لو كان هناك اتفاق تجاري بريطاني - أوروبي، فلا بد للندن أن تكون ملتزمة بالمعايير والإجراءات التجارية الأوروبية. فعلى سبيل المثال، لا يمكنها أن تستورد من الولايات المتحدة الدواجن واللحوم وبعض السلع الغذائية الأخرى، لأن المعايير الصحية المطبقة في أمريكا أقل جودة منها في الاتحاد الأوروبي. فهذا الأخير لا يريد أن تكون بريطانيا ممرا لمثل هذه المنتجات إلى دوله.
هذا مثال واحد بسيط على عمق التعقيدات الموجودة على ساحة المفاوضات البريطانية - الأوروبية. وهناك عشرات المسائل المشابهة، بما فيها تلك التي تدخل ضمن التعاون الأمني. فاعتبارا من أول العام المقبل لا يمكن للمملكة المتحدة أن ترسل مذكرات اعتقال لأشخاص في دول أوروبية، لأن هذه الدول لا تسلم المطلوبين فيما بينها، وبريطانيا لن تكون واحدة منها. فضلا عن شكل تدفق الشاحنات التي تعد بعشرات الآلاف يوميا بين الجانبين، الذي سيتغير حتما في حال عدم وجود اتفاق تجاري، فضلا عن مستقبل لندن لمركز مالي للمقاصة، وغير ذلك من مسائل وقضايا تتطلب تنازلات ومرونة من الطرفين. بل شجاعة منهما، بصرف النظر عن الأصوات الشعبوبية ولا سيما في بريطانيا التي تنادي بالانسحاب بأي شكل، وفق الجدول الزمني لـ "بريكست".
ديفيد فروست كبير المفاوضين البريطانيين كان واضحا قبل أيام بإعلانه أن الاتفاق التجاري المبدئي مع أوروبا بات مستبعدا، واتفق معه على الفور ميشيل بارنييه نظيره الأوروبي. فالتفاهم لم يعد حاضرا، على الأقل في الوقت الراهن، والمسافة الزمنية للوصول إلى اتفاق لم يتبق لها كثير من الوقت، والنغمة البريطانية الانفصالية الجافة هي السائدة حاليا، ولا تساعد أبدا على طرح الأمل بعبور المفاوضات التجارية التاريخية من المنطقة المتفجرة، والجانب الأوروبي ليس مستعدا حاليا لتقديم ما يعده امتيازات مستقبلية لعضو فضل الخروج من الاتحاد، إلا عبر اتفاق واضح لا ثغرات فيه.
إنشرها