Author

أوروبا تطبق «عقيدة سيناترا» للتعامل مع الصين

|

لا يمكن للمراقب إلا أن يجزم بتنامي الخلافات السياسية، ليس بين الصين والولايات المتحدة "فهذا بات جليا واضحا لا يحتاج إلى برهان"، وإنما أيضا بين الأولى والاتحاد الأوروبي. فما كان قبل عدة أشهر "سمنا على عسل"، صار اليوم كابوسا يؤرق الجانب الصيني، الذي بات يخسر أوراقه الورقة تلو الأخرى من رصيده، وإن بدا لكثيرين من العناصر اليسارية والقوى المعادية للغرب وجماعات التطرف والإرهاب والفوضى، أن الصين قوية صامدة وستكتسح العالم وتصبح الآمرة الناهية في شؤون الكون.
إن ما يعنينا هنا تحديدا هو وجود منحى لخلافات صينية - أوروبية آخذ في التصاعد خلال الأشهر القليلة الماضية بالتوازي مع التوترات المعروفة بين واشنطن وبكين، وليس كسبب من أسبابها. ولعل من حسن حظ بكين أن لندن اليوم خارج رسم سياسات الاتحاد الأوروبي الخارجية، وإلا لشهدنا حالة تصادم حادة بين الصينيين والأوروبيين، بسبب الديمقراطية المقموعة في هونج كونج.
غير أن هذا لا يعني أن موضوع هونج كونج ليس ضمن الملفات التي تؤزم العلاقات الصينية - الأوروبية. فهو حاضر جنبا إلى جنب مع ملفات خلافية أخرى مثل، الهجمات السايبرية الصينية على المصالح الأوروبية، ومسؤولية الصين عن انتشار وباء كورونا المستجد وتداعياته الاقتصادية والإنسانية المؤلمة على مجمل الأنشطة في القارة الأوروبية.
وبطبيعة الحال هناك تفاوت في مواقف أعضاء التكتل الأوروبي الـ 27 حيال الصين يراوح ما بين موقف مهادن تجسده ألمانيا، بسبب مصالحها وعلاقاتها الوثيقة مع بكين، وموقف متشدد تجسده السويد التي تطالب بضرورة معاقبة النظام الصيني، بسبب قمعها الشديد للهونجكونجيين، وموقف رخو تتبناه الدول الأوروبية الصغرى، التي أغرتها بكين ببعض المشاريع الاستثمارية.
لكن يمكن القول بصفة عامة، إن الأوروبيين – على الرغم من أن الصين تعمل على شق صفوف الاتحاد الأوروبي باستغلال أوضاع دوله الأضعف اقتصاديا "كاليونان"، أو الأكثر حاجة لتجديد بنيتها التحتية "كإيطاليا" من أجل ضمان اعتراضها على قرارات المفوضية الأوروبية ذات الصلة بالصين - لا يريدون تصعيدا مع بكين على الطريقة الأمريكية، ويسعون بدلا من ذلك إلى الحفاظ على شعرة معاوية مع القيادة الصينية، أملا في تعاون دولي في المستقبل لمعالجة ما خلفته جائحة كوفيد - 19 من آثار عالمية مدمرة، ولتحقيق الأمن والسلام والاستقرار على مستوى العالم. لكن إن صدق ذلك فإن الاتحاد الأوروبي يغامر بواحدة من أهم مبادئه وقيمه، وبعبارة أخرى فإن سكوته على القوانين الأمنية التي سنها الحزب الشيوعي الصيني للإطباق على أنفاس دعاة الحرية والديمقراطية في المستعمرة البريطانية السابقة، بالتضاد مع بنود الاتفاقية البريطانية - الصينية لإعادة هونج كونج الموقعة بين لندن وبكين عام 1984 سيجعل منه كيانا غير موثوق به لدى شعوبه.
إن نظرة فاحصة على عناوين الصحف في الصين ودول الاتحاد الأوروبي الرئيسة مثل، فرنسا وألمانيا حول لقاء القمة الافتراضي الذي عقد قبل مدة بين الزعيم الصيني شي جين بينج ونظيريه الفرنسي إيمانويل ماكرون والألماني أنجريد ميركل، توحي لكل لبيب بمدى اختلاف الجانبين في قراءتهما للأوضاع. فعلى حين نشرت الصحف الصينية وعلى رأسها صحيفة "الشعب" اليومية وصحيفة "جلوبال تايمز" - كلتاهما مملوكتان للدولة وتأتمران بأمرها - عناوين مثل "شي يوجه رسالة شراكة إلى الاتحاد الأوروبي" و"الصين والاتحاد الأوروبي يسعيان إلى ضخ مزيد من الزخم من أجل استعادة عافية العالم"، فإن عناوين الصحف الأوروبية الحرة راوحت ما بين العناوين الثلاثة التالية، "قشعريرة الحرب الباردة تجتاح الصين"، و"زعماء الاتحاد الأوروبي يضغطون على الصين في ملفات التجارة والقوانين الأمنية في هونج كونج"، و"الاتحاد الأوروبي والصين يتبادلان التهديدات حول قمع الحريات في هونج كونج".
وهكذا نرى أن إعلام الصين هو إعلام يعكس ما تتمنى القيادة الصينية حدوثه، فيما الإعلام الغربي هو صدى للواقع، ففي منتصف حزيران (يونيو) قال شارلز ميشيل رئيس المجلس الأوروبي خلال مؤتمر صحافي، إن الاتحاد الأوروبي أعرب للصين بوضوح عن اهتمامه بما يجري في هونج كونج، وخشيته من تبعات تطبيق القوانين الأمنية المقترحة. ولم يمض سوى وقت قصير إلا و"وانج لوتون" الناطق الرسمي باسم الخارجية الصينية، يدلي ببيان يحذر فيه الاتحاد الأوروبي من التدخل فيما أسماه "شيئا داخليا صينيا خاصا"، ويدعوه للكف عن ذاك.
هنا ظهرت أورسولا فون دير لين رئيسة المفوضية الأوروبية لتعلن لوسائل الإعلام بصوت غاضب، أن المشكلة مع الصين أعمق بكثير، وتتجاوز أزمة هونج كونج "التي يحذروننا الصينيون من الاقتراب منها" إلى قضايا أخرى.
وحينما سئلت عن هذه القضايا لم تتردد في القول، إنها تشمل الهجمات الإلكترونية الصينية على المستشفيات ومراكز البلاد الحساسة، ناهيك عن ارتفاع درجة التضليل الصيني على المواقع الإلكترونية فيما خص الوباء الذي تسببت في انتشاره، والعلاقات الثنائية غير المتوازنة في مجالي التجارة والاستثمار، التي تسودها الخلافات وتحف بها المخاطر وتحتاج إلى مفاوضات للتوصل إلى اتفاقيات تسوية شاملة وحاسمة.
وهذه النبرة الأوروبية ربما كانت جديدة على مسامع الرئيس شي جين بينج ورفاقه في الدولة والحزب الأحمر الحاكم، لأن الاتحاد اعتاد أن يسمعهم كلمات الثناء والقبول بالصين كمنافس نظامي "بدلا من وحش استبدادي غير مكترث بالمعايير الأوروبية"، بعد أن صارت ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة. واليوم يستمعون إلى شيء مغاير لا يمكن تحمله، خصوصا لو أخذنا في الحسبان مشاكلهم السياسية والتجارية المتفاقمة مع الولايات المتحدة، ومشاكلهم المستجدة مع أستراليا، بسبب طلب الأخيرة فتح تحقيق دولي حول منشأ تفشي فيروس كورونا المستجد وتهديدها للصينيين بالمقاطعة الاقتصادية.
وجملة القول، إن الاتحاد الأوروبي واقع اليوم بين انعزالية الولايات المتحدة واستبدادية وتغول الصين، الأمر الذي لم يترك لجوزيب بوريل مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي سوى أن يقول أخيرا، في معرض شرحه لسياسة التكتل الأوروبي تجاه الصين، "يجب أن نفعل مثلما فعل فرانك سيناترا، أليس كذلك؟.. نفعلها على طريقتنا"، وذلك في إشارة إلى أغنية "على طريقتي MY WAY" للمغني والممثل والمنتج الأمريكي المعروف "فرانك سيناترا" (توفي 1998)، طبقا لمجلة "الإيكونوميست" البريطانية. وهكذا بات لدينا اليوم في معجم المصطلحات السياسية مصطلحا جديدا هو "عقيدة سيناترا".

إنشرها