Author

أسعار الغذاء .. تنخفض عالميا ترتفع محليا

|

جاءت تقارير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة "فاو"، مبشرة ومحبطة في آن معا. مبشرة بشكل يبعث على الطمأنينة بشأن تراجع الأسعار، ومحبطة نظرا إلى أن السوق السعودية لا تستجيب لهذا التراجع الموثق دوليا. فقد أكدت هذه التقارير انخفاض أسعار الغذاء العالمية للسلع الأساسية للشهر الرابع على التوالي، وعند أدنى مستوياتها في 17 شهرا، والمبشر في الأمر ليس مجرد تراجع الأسعار، حيث حققت أسعار الغذاء تراجعا كبيرا في 2015، وها هي الآن تتراجع مرة أخرى، لكن الفرق المبهج أن هذا التراجع يأتي بسبب العرض القوي ووفرة الإنتاج في عدد كبير من السلع، من بينها اللحوم الحمراء والحبوب بأنواعها.
صاحب انتشار فيروس كورونا قلق واسع على إنتاج الغذاء العالمي، وسلامة سلاسل الإمداد، ما أوحى بموجة من ارتفاع الأسعار، لكن التقارير العالمية أثبتت أن تلك المخاوف ليس لها دليل من الواقع، وأن العرض أكبر بكثير من طاقة الأسواق، لذا اتجهت الأسعار العالمية إلى التراجع بعد أن هدأت المخاوف. لكن السؤال الملح الآن، هل استفادت السوق السعودية من هذا؟
تشير مراجعة الأسعار لعديد من المنتجات الغذائية إلى أن الأسعار إما ارتفعت عن متوسطات الأشهر الماضية التي سبقت انتشار المرض كوفيد - 19، وإما أنها لم تشهد تراجعا كاستجابة متوقعة للتراجع في الأسعار العالمية ووفرة الإنتاج. وهذا بقدر ما هو محبط، إلا أنه يصعب تفسير مثل هذه الظاهرة اقتصاديا، فاستفادة المملكة من وفرة المعروض العالمي تبدو ضئيلة، ما يخالف التوقعات، خاصة أنها ترتبط بسلاسل الإمداد العالمية الأكثر كفاءة، كما أن الرسوم الجمركية عند أدنى المستويات عالميا، وعديد من هذه السلع الغذائية تستفيد من الدعم الحكومي، ومن الغريب جدا أن هذا يتكرر دائما، فإذا ارتفعت الأسعار العالمية، فإن الأسعار المحلية تستجيب لذلك، وهذا حدث مع ارتفاع أسعار الغذاء مع نهاية العقد الأول من القرن الحالي، حيث ارتفعت الأسعار بنسب تجاوزت 100 في المائة في بعض السلع، ثم لما تراجعت أسعار الغذاء العالمية بنسب قوية في 2015 وما تلاه، لم تتجاوب السوق السعودية مع تلك التراجعات، وقد أشارت "الاقتصادية" إلى ذلك في حينه بتقارير وتحليلات مصاحبة للظاهرة.
وهنا نتساءل، من المسؤول عن ارتفاع الأسعار مقارنة بتقرير المؤشر العالمي؟ ونتساءل أيضا، أين تحركات الجهات الرقابية في القطاعات المنوطة بذلك من وزارة التجارة وحماية المستهلك وأمانات المناطق؟ إذن، فنحن أمام ظاهرة اقتصادية غريبة. كما تم رصد هذه الظاهرة في سلع أخرى، كأسعار السيارات والأثاث، لكن – بالتأكيد – يعد تأثير هذه الظاهرة في أسعار السلع أشد على الموطن العادي من غيرها.
أكدت تقارير منظمة "فاو" لأسعار الغذاء، أن مؤشر الأسعار العالمية عموما، تراجع بنحو 1.9 في المائة، وبشكل مفصل انخفضت أسعار منتجات الألبان 7.3 في المائة مدفوعة بانخفاضات حادة في أسعار الزبدة والجبن، وسجلت أسعار مساحيق الحليب انخفاضا. وانخفض مؤشر "فاو" لأسعار الحبوب 1.0 في المائة، كما انخفضت أسعار القمح، وأسعار الحبوب الخشنة والذرة الأمريكية وأسعار الزيوت النباتية واللحوم فاقت 3.6 في المائة، وتتوقع التقارير أن يصل إنتاج الأرز إلى أعلى مستوى له على الإطلاق.
هذا التراجع الواسع النطاق، يجب أن تظهر آثاره في الأسواق المحلية إذا كانت هذه الأسواق تنافسية وعادلة وليست أسواقا احتكارية. لذا، فإن التفسير الاقتصادي المباشر لعدم استجابة السوق المحلية لهذه التراجعات الواسعة، يعود أساسا إلى وجود احتكار في سلاسل الإمداد في الداخل السعودي، فقد تكون عند المستورد الرئيس، أو في المخازن والمستودعات الكبرى، أو في المتوسطة، أو في سوق التجزئة، ولا يمكن تفسير هذه الظاهرة اقتصاديا بغير ذلك، خاصة أن أسعار الوقود والنقل في المملكة أقل عن مستوياتها الأدنى منذ أشهر عدة، كما أنها الأقل عالميا، وهي عنصر محايد في تحديد الأسعار على كل حال.
لكن هذا التفسير يفرض علينا أسئلة مهمة نوجهها إلى هيئة المنافسة، التي يجب عليها أن توضح ما يحدث حاليا، خاصة أنه ثبت من خلال إعلانات الهيئة وتقاريرها، وجود اتفاقيات على تحديد الأسعار بين الموردين لبعض السلع، ومن بينها الأرز، وهذا فسر لنا جزئيا سبب عدم تراجع الأسعار استجابة لتراجعها العالمي عام 2015. ورغم وفرة المعروض، وتلك الخطوات من هيئة المنافسة، إلا أن أثرها في الأسواق لم يكن بارزا، فالأسعار بقيت مرتفعة منذ ذلك الحين، والآن تعود الظاهرة نفسها، فالأسعار العالمية تتراجع، وأسعار الغذاء تبقى كما هي أو ترتفع، ما يدل على أن وجود الاتفاقيات ليس هو السبب الوحيد، وأن مكامن المشكلة أكبر من مجرد اتفاقيات، بل هي مركبة تحتاج إلى تعاون كبير من جميع الأجهزة الحكومية المعنية لمعرفة الأسباب.
فالمعروف اقتصاديا، أن ارتفاع الأسعار يعود إلى ندرة السلع، وهو يخالف الواقع، أو أن هناك فرضا للأسعار، ومعناه وجود من يفرض هذه الأسعار، وهذا لا يحدث إلا إذا كان هناك مؤسسات مهيمنة على الأسواق، وإذا كان احتمال الهيمنة أكبر هنا، خاصة مع وجود تقارير من هيئة المنافسة على وجود اتفاق على تثبيت الأسعار سابقا، فإن الحل ليس في فرض الغرامات مهما بدت كبيرة، بل يجب فرض حالة المنافسة في السوق ولو بقوة النظام، وهو ما يقدم حلولا جذرية لقضايا عدة بخلاف الأسعار، ومن بينها البطالة.

إنشرها