ثقافة وفنون

«البيداغوجيا» .. فن هش بقيم إنسانية عميقة

«البيداغوجيا» .. فن هش بقيم إنسانية عميقة

نفعية تعليمية تجعل التلاميذ مجرد "مستهلكين" لخدمة.

«البيداغوجيا» .. فن هش بقيم إنسانية عميقة

فيليب ميريو.

أبعد وباء كورونا الأطفال عن فصولهم الدراسية لعدة أسابيع، في نصف الكرة الأرضية، بحسب تطورات الوضعية الوبائية في كل دولة، لكن هذا الطارئ الصحي لم يستطع إيقاف العملية التعلمية، بل على العكس مثل فرصة نادرة لاختبار نظرية التعليم الرقمي أو ما يصطلح عليه "التعليم عن بعد" في مجال التعليم، قصد التحقق من قابليتها للإجراء والتطبيق على الجميع، بعدما كان الأمر يتم بشكل انتقائي، وفي سياقات معينة، كما كانت فترة امتدادها مناسبة لتقييم فاعليتها ومدى نجاعتها على أوسع نطاق.
كان فيليب ميريو، من الأسماء التي جادلت وساجلت بقوة في موضوع التعليم عن بعد، منذ بداية الحجر الصحي إلى اليوم، فلا ينقضي الأسبوع دون أن يطل، من أحد المنابر الإعلامية الأوروبية، بحوار أو تصريح أو مقابلة.. هذا ليس بالأمر الغريب من مناضل من أنصار البيئة، ارتبط منذ شبابه بحركات التربية الشعبية، فقد كافح على مدار أربعة عقود من أجل نشر مبادئ التربية الجديدة في المجتمع الفرنسي، وله سجل حافل "تنظيرا وممارسة" في حقل التربية والتعليم، حتى نال باستحقاق لقب "شيخ البيداغوجيا".
تعد المدرسة، بحسب الخبير التربوي الفرنسي، ذاك المكان الحاسم الذي ترسم فيه المصائر التي ستلون مجتمع الغد في كل دولة. على هذا الأساس، بات لزاما أن تؤطر هذه العملية بأسئلة إشكالية، لا تقبل أجوبة تبسيطية، بمقدورها المساعدة على القيام بإحدى أعقد المهن عبر التاريخ، فقارئ مؤلفات الرجل التي تعدت 30 كتابا في مجال التربية، يجدها موجهة للإجابة عن أسئلة من قبيل: لماذا نربي؟ وأي مجتمع نبني؟
يستعين بعالم النحل، قصد توضيح وتبسيط فكرته، فالإنسان يتميز عن النحل بكونه لا يحمل طبيعة مجتمعه ولا نظامه السياسي في كروموسوماته. فالنحلة ملكية بالفطرة، إذ لم يسبق لأحد على الإطلاق أن رأى نحلة جمهورية أو ديمقراطية، في المقابل لا وجود في عالم البشر لإنسان ملكي أو جمهوري بالوراثة، فالأفراد من يعدون إمكاناتهم في الوجود، ولا يكشف عنها إلا عن طريق التعلم، ثم بوساطة الاختيارات الواعية التي نقوم بها.
يعرف ميريو، في الأوساط التربوية بمواقفه الحادة التي لا تهادن أحدا، حيث خاض هجوما شرسا، في أحدث كتبه "التصدي" La riposte، ضد أنصار إصلاحات جون ميشال بلانكيه وزير التعليم، لإمعانها المفرط في التقنوية والتجريبية والتطبيقية، وتصدى لتيار المفرطين في البيداغوجيا hyperpédagogisme ممن يسيئون إلى المدرسة، تحت ذريعة الاحترام الكامل للطفل، ولا يتوانى في الدعوة إلى إسقاط هالة "التقديس" التي تضفى على الجديد في حقل التربية والتعليم، حين طالب بالعودة إلى الماضي قصد إعادة قراءة كبار علماء التربية، فمجتمع اليوم في حاجة ماسة إلى مراجعة وتحليل النقاش التربوي للقرنين الماضيين، من أجل الفهم أولا، وتفاديا لتكرار تلك الأخطاء ثانيا.
شكل بعض آرائه نشازا وسط أقرانه، إذ لم يتردد في القول "إن البيداغوجيا ليست علما صحيحا"، بقدر ما هي "فن عملي"، أو بتعبير أوضح لميشال دي سارتو "فن هش، بقيم إنسانية عميقة"، لذا تنبغي مساءلة الأدوات البيداغوجية دائما في ضوء الغايات والأولويات التي توضع لها، فلا وجود لأدوات ولا لتقنيات بالإمكان العمل بها باستقلالية عن مشروع يتعلق بالطفل والإنسان والمجتمع.
يرفض ميريو اختزال "فلسفة التعلم" في جملة من البروتوكولات الكونية ترتبط بتطور بنى دماغية، فالنقاش حول التعلم كإحدى أقدم المهن في العالم، يعود إلى سؤال قديم لأرسطو "كيف نتعلم العزف على القيثارة؟ أليس باللعب على القيثارة؟ وإذا كنا نتقن آلة القيثارة، فلماذا إذن نتعلم العزف على القيثارة؟" هذا السؤال الفلسفي العريق قد يبدو لدى كثيرين متجاوزا، إزاء ما تجود به الثورة الرقمية، لكنه في الجوهر لا يزال يحظى بنصيب كبير من الراهنية.
تولد البيداغوجيا - في نظر ميريو - من صلب الاهتمام بالمتعلم، تتولد عن هذا الاهتمام أسئلة عديدة: كيف تولد لدى المتعلمين الرغبة في التعلم؟ ما سبل توريطه في التجربة الصعبة للفهم؟ كيف نحركه ونقنعه دون تحكم أو إكراه؟ كيف نبني ذواتا متعلمة دون تدجين؟ أي الطرق أنجع لإقامة علاقة صارمة مع المعارف؟ كيف يتخلص من الانقياد للعادة وسهولة الأنماط المقولبة؟ وبشكل عام، كيف نولد فرحة الفهم والتفكير لدى المتعلم، تلك الفرحة المتحركة المعدية، تلك الفرحة التي تحمس الجميع إلى تقاسم المعارف؟ إن التدريس مهنة غريبة؛ فداخل الفصل، وكيفما كان النشاط التعليمي التعلمي "القراءة، البحث، اللعب الجماعي..."، على المعلم - اعتمادا على تحكمه في المعارف - أن يضع نفسه في موضع المتعلم، بالتموقع في وضعيات استكشاف فردية، تسمح للمتعلم بالإبداع بشكل مستمر.
تيقن أنصار فكرة التعليم عن بعد، طيلة مدة الحجر الصحي، أن هذه الإمكانات باتت شبه معدومة في هذا النمط من التعليم، الذي يسوق لأغراض تجارية ربحية بالدرجة الأولى، بعدما استغلت الشركات الكبرى في مجال الرقمنة الظرفية لدعم الابتكار في هذا المجال، تمهيدا إلى تحويل التعلم عن بعد إلى سوق رائجة في المستقبل "برامج وتطبيقات ومواد..." توضع رهن إشارة المستهلك بحسب قدرته الشرائية. بذلك يختزل هؤلاء، ومن في فلكهم، البيداغوجيا في عملية تراصف وتتابع للبطاقات التعليمية الفردية، دون أدنى اهتمام بالأنشطة الجماعية، والحاجة إلى التفاعل مع الآخرين، والحضور المادي للمدرس في الفصل.
يبدو أن المدرسة آخذة في التحول - بحسب ميريو - نحو نفعية تعليمية، ما يجعل التلاميذ مجرد "مستهلكين" لخدمة، ما يهدد العملية التعليمية من أساسها، لذا يدعو الرجل إلى استيعاب درس كورونا جيدا، بالشروع في إعادة تأسيس المدرسة، بالاستناد إلى مراجعة نقدية للأدوات التعليمية. فالنظام المدرسي الحالي، يقدم للتلاميذ معرفة دون تعلم، فهو يركز على الفاعلية الفورية للمعرفة الآلية المكتسبة وبأقل تكلفة، دون بذل مجهود والاستمتاع به، ما أدى إلى "تدني المستوى لدى التلاميذ، وتحول المعلم إلى نادل المقهى، حيث من تلميذ إلى آخر، ليكرر بشكل فردي فكرة تم تقديمها في الأصل بشكل جماعي".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون