Author

الحوكمة وإدارة الأزمات

|

تتعدد تعريفات الحوكمة حسب مدارسها، وحسب القطاع الذي تعمل فيه، وهي - في المجمل - كل ما من شأنه حماية القرار والموارد، لتحقيق أهداف المنظمة، تلك الأهداف التي وضعها مانحو الأموال. وإذا جاء مصطلح الحوكمة، فإن الشفافية أكثر الموضوعات إثارة فيه، ثم حماية أصحاب المصلحة، ودرء تعارض المصالح. لذا، فإن أصعب مكونات الحوكمة، تلك التي تعمل على تحقيق هذه القضايا الثلاث.
فهذه المفاهيم سهلة ممتنعة، فالشفافية واضحة المعنى، وهي أن ترفع السرية ما أمكن ذلك، وأن يطلع أصحاب المصلحة على جميع المعلومات التي تعينهم على اتخاذ القرار، وأن تكون عملية إعداد هذه المعلومات واضحة ومعلنة، ومع ذلك، فإن تطبيقات هذا المفهوم في الواقع العملي يقابلها كثير من العقبات والإشكاليات التي تبدأ من التردد الشديد حيال رفع السرية، وتصدم بقضايا مثل الأمن والمنافسة. كما أن عملية الإفصاح عن إعداد المعلومات، لم تزل بعيدة المنال، فالأدوات المتوافرة لمثل الإفصاح، لم تزل أقل من المطلوب.
في المقابل، يأتي مفهوم أصحاب المصلحة أكثر صعوبة، فتحديد من تجب حمايتهم مسألة شائكة جدا، حتى الآن لا يوجد تعريف دقيق لهم، ذلك أن كل مؤسسة ومنظمة تتسع لعديد منهم، كما أنهم يختلفون باختلاف القطاع، ففي بعض الجهات يكونون المانحين للأموال، مثل الشركات المساهمة، وفي بعض الأحيان قد يكونون المستخدمين للخدمة، مثل الصحة. وهكذا، فإن الصعوبات التي تواجه تعريف وتحديد أصحاب المصلحة تجعل من الصعب تحقيق وتطوير الأدوات التي تحقق حمايتهم.
وبالمثل، نجد الصعوبات حول موضوع درء تعارض المصالح، فتعريف المصلحة قضية لم تزل شائكة نوعا ما، كما أن الإجراءات التي تتخذ لمنع مثل هذا التعارض تتركز حول تقييد الشخص نفسه. ورغم هذه التحفظات الدائمة على الحوكمة، فإنها حققت قفزات مهمة في أنحاء العالم منذ الانهيارات المالية عام 2002، وما تلا ذلك من إصدار عديد من التشريعات، مثل قانون أوكسلي في الولايات المتحدة. فالمسألة تدور حول الضمانات بأن القرار الذي يتخذ داخل المنشأة ويتخذه مجلس الإدارة، إنما يتم لتحقيق أهداف المنظمة وأصحاب المصلحة، وتحقق كثير من التقدم في هذه الضمانات حتى شملت استقلال أعضاء مجلس الإدارة، واللجان المنبثقة منه كافة.
ومنذ تولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، مقاليد الحكم، وانطلاق رؤية المملكة 2030، وتعيين الأمير محمد بن سلمان وليا للعهد، أصبحت الحوكمة من أهم ركائز العمل الحكومي لدينا، وقد لا يمر شهر دون أن يصدر نظام أو تشريع من أجل ذلك. ولعل آخر تلك التشريعات، ما صدر من مجلس الوزراء بشأن لائحة تعارض المصالح عند تطبيق نظام المشتريات والمنافسات الحكومية، كما أنه من المتوقع أن تصدر أنظمة وقرارات تعزز ذلك الاتجاه، وأيضا ما تم من تعديلات في الهياكل الحكومية وتنسيق هيئة الرقابة والتحقيق مع هيئة مكافحة الفساد لتعزيز الجانب الرقابي وتوحيد الجهود في ذلك.
وأثبتت الأيام التي تلت، صدق هذا التوجه، وتم اكتشاف عديد من حالات الفساد التي تم التعامل معها بصرامة. وهكذا، فإن الحوكمة تعمل في الأوقات الطبيعية على حماية القرار بأنواع شتى، وبالتأكيد فإن الدول والجهات والمؤسسات، التي طورت هذه المفاهيم في الأوقات الطبيعية، ستكون أكثر أمانا في أوقات الأزمات، والجهات التي تراخت في الأوقات العادية، ستكون عرضة للقرارات السيئة في أوقات الأزمات.
ذلك أن إدارة الأزمات تتطلب التخلي عن كثير من الإجراءات الرقابية، خاصة تلك المزدوجة منها، وذلك لتقليص فجوة الوقت بين صدور القرار والتنفيذ، وقد يجد عديد من القرارات السيئة طريقه إلى التنفيذ مع طلبات السرعة في التنفيذ. فإذا لم يسبق الأزمة تنظيم فاعل لآليات اختيار أعضاء مجالس الإدارات، أو لم يكن تشكيل المجالس متناسبا مع القواعد العامة للحوكمة وأعداد المستقلين، ولم يتم بناء اللجان المنبثقة من المجالس، كما لم تكن هناك دراسة شاملة وسجلات كافية للمخاطر ومراقبتها، إذا لم يتحقق كل ذلك في الأوقات التي تسبق الأزمة، فإنه من المستحيل - تقريبا - أن يتم تنفيذه في أوقات الأزمات، وبالتالي فإن احتمالات تعرض المنظمات لمخاطر القرار الخاطئ ستكون مرتفعة جدا، واحتمالات إساءة استخدام الأصول كبيرة جدا، وقد تتفاقم الأزمات ويصعب حلها، وتنهار المؤسسات بسبب ذلك الإهمال السابق في بناء قواعد الحوكمة.
في المقابل، فإن اكتمال بنية الحوكمة قبل الأزمة كفيل بحمايتها من الأزمة وتبعاتها. فالحوكمة تقتضي بناء سجل واضح للمخاطر المتوقعة، وبناء إجراءات معتمدة لمواجهتها، فإذا جاء وقت الأزمة، تصبح متوقعة وهناك قرارات ونماذج للقرار جاهزة للعمل لحماية الأصول من الاستخدام السيئ، ومن التهور في القرارات، وأن تظل حماية أصحاب المصلحة موجودة.

إنشرها