Author

إعادة فتح الاقتصاد

|
قاد انتشار جائحة كورونا المستجد والهلع من تفشي العدوى، إلى تبني إجراءات العزل الصحي التي تسببت في إغلاق أجزاء كبيرة من اقتصادات دول العالم. خفض الإغلاق العظيم الناتج المحلي العالمي وسرح ملايين العاملين في أرجاء المعمورة وفقدت معظم الأسر نسبا معتبرة من دخولها. قادت الجائحة أيضا إلى إفلاس أعداد كبيرة من الأشخاص والشركات وتحملهم مزيدا من الديون. إضافة إلى ذلك هوى الإغلاق العظيم بإيرادات الحكومات وحملها تكاليف باهظة لدعم الأسر والأعمال والتصدي للمرض، ما رفع عجز المالية إلى مستويات هائلة وضخم الديون الوطنية كنسب من الناتج المحلي في دول العالم. ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد قادت حالة الطوارئ الصحية في معظم دول العالم إلى الضغط على المنظومات الصحية، وعطلت كثيرا من خدمات المرضى، ما يهدد بزيادة معدلات الأمراض الأخرى والخسائر الناجمة عنها.
تصل نسبة تراجع الناتج المحلي في الربع الثاني من 2020 إلى 40 في المائة في بعض الدول، كما ستسجل الأغلبية الساحقة من دول العالم هذا العام معدلات نمو سلبية لأول مرة منذ الكساد العظيم. وتأكد بالفعل أن الاقتصاد العالمي في حالة ركود اقتصادي، وهناك تخوف كبير من تحوله إلى كساد إذا استمر الإغلاق فترة طويلة أو لم تنجح سياسات الإنعاش التي تقوم بها الحكومات. ويشير معظم التوقعات إلى إحداث الجائحة تغيرات هيكلية في الاقتصادات العالمية وزيادة تكاليف إنتاج السلع والخدمات بسبب القيود المفروضة على الإنتاج والاستهلاك وكذلك حدوث تحولات معتبرة في أنماط الاستهلاك والإنتاج، ما يعني تعسر عودة الاقتصاد قريبا إلى مساره السابق حتى نهاية العام الحالي على الأقل، كما يشير إليه معظم استطلاعات الرأي.
السماح بعودة فتح الاقتصاد لا يتطلب فقط رفع القيود الحكومية، كما يتصور البعض، لكنه يستدعي أيضا عودة الطمأنينة إلى أغلبية السكان بتلاشي مخاطر العدوى والثقة بالإجراءات الحكومية والتزام الأعمال والجمهور بها. فخوف الناس من العدوى سيحد كثيرا من فرص عودة العمالة إلى أماكن العمل، كما سيقلل كثيرا من الطلب على السلع والخدمات التي يشك في تسببها في نقل العدوى. ويشير معظم استطلاعات الرأي إلى أن معظم الناس يعدون حماية الصحة العامة أهم من التكاليف الاقتصادية للجائحة. وستتأثر الأعمال الصغيرة بدرجة أكبر من الإغلاق الاقتصادي بسبب تركزها في الخدمات التي تحمل مخاطر العدوى، ومحدودية قدراتها على تحمل الإغلاق والتأقلم مع متطلبات الحد من انتشار المرض، وتراجع الطلب على الخدمات والتراجع الاقتصادي بشكل عام. وتوظف الأعمال الصغيرة أعدادا كبيرة من العمالة، ما يعني زيادة البطالة في معظم دول العالم بنسب كبيرة خلال الأشهر المقبلة.
يحمل إعادة فتح الاقتصادات العالمية في الوقت الحالي مخاطر كبيرة في ظل عدم توافر لقاح أو دواء ناجع للمرض، حيث انتشرت الجائحة في معظم دول العالم وسيستمر وجود بؤر لها في أماكن كثيرة لفترة من الزمن، ما يهدد بحدوث موجات جديدة يتخوف كثيرون من إحداثها إصابات أكثر. في المقابل، تضغط التكاليف الاقتصادية للجائحة على دول العالم لإعادة فتح الاقتصادات وإعادة توظيف العمالة. وسيعيد فتح الاقتصاد عجلة إنتاج السلع والخدمات، لكنه ليس كافيا وحده لإنعاش الاقتصاد، حيث لا بد من عودة الطلب على السلع والخدمات إلى مستوياته السابقة. ولن تتم عودة الطلب إلا بعد تلاشي مخاوف المستهلكين، وهذا يتطلب فرض قيود وقاية مقنعة تثبت نجاعتها في خفض العدوى إلى مستويات متدنية، فعودة ارتفاع الحالات المرضية تعني كبوة قوية للأنشطة الاقتصادية.
يستدعي فتح أي اقتصاد تراجع الحالات المرضية والخسائر البشرية وكذلك تحسن توقعات انتشار المرض. كما يتطلب فرض إجراءات الوقاية والتقيد بها، وزيادة ثقة الجمهور بقدرات وطاقات المنظومات الصحية في الكشف والعلاج، وتوافر وسائل الوقاية على نطاق واسع. ويعاني معظم الدول انخفاض إمكانات الكشف المبكر مما يثير المخاوف من انتشار المرض مجددا، ونجحت الدول التي توفر الكشف على نطاق واسع في التعامل مع الجائحة والحد من آثارها، ومن أبرز تلك الدول: تايوان، سنغافورة، كوريا الجنوبية، ونيوزيلندا. كما يتطلب إعادة فتح الاقتصاد في ظل الظروف الراهنة تطبيق إجراءات السلامة والوقاية، كالتباعد الاجتماعي والثقة بالتزام المنتجين والمستهلكين بها. إضافة إلى ذلك تساعد إجراءات وتقنيات مراقبة وتتبع الإصابات على الحد من انتشار المرض مع التأكيد على عدم استخدامها لأغراض غير صحية للحد من مخاوف الناس ودفعهم إلى التعاون مع السلطات الرسمية.
هناك انقسام مجتمعي حول موعد إعادة فتح الاقتصاد، حيث يؤيد بعض الشرائح السكانية إعادة فتح الاقتصاد بسرعة أكثر من غيرها، كالعمالة الأقل مهارة. وتأثرت العمالة الأقل مهارة سلبيا بالجائحة بشكل أكبر، حيث ارتفعت بطالتها عدة أضعاف العمالة الماهرة التي تمكنت من العمل عن بعد بمعدلات أفضل. كما يشجع كثير من ملاك الأعمال إعادة فتح الاقتصاد للحد من تراجع الإيرادات ولحيازتهم إمكانات أفضل في العلاج وتجنب العدوى.
إنشرها