Author

السويديون والاحتفاء بوباء كورونا

|
أستاذ جامعي ـ السويد
كعادتي كل أسبوع، أمضيت بعض الوقت يوم السبت الفائت متجولا في السوق الشعبية لمدينتنا، والأسواق الشعبية ظاهرة إسكندنافية صارت جزءا من ثقافة شعوبها.
وكل مدينة تقريبا فيها ساحة كبيرة، يتجمهر فيها صغار الباعة خصوصا الفلاحين كل يوم سبت، يعرضون بضاعتهم بأثمان تقل كثيرا عن مثيلاتها في "المولات" والأسواق التجارية الكبيرة.
كانت السوق مكتظة بالناس. وانتابتني الدهشة لرؤيتي زرافات من كبار السن يتجولون في السوق، غايتهم شراء الزهور والسمك النهري الطازج، وبيض الدجاج الطليق في المزارع.
وكان السبت يوما مشمسا ربيعيا جميلا لامست درجة الحرارة الـ 20 مئوية، ما شجع الناس أن تتقاطر إلى السوق الشعبية والمتنزهات والأرصفة الواسعة للمشاة وشواطئ البحيرات.
السويد لم تقفل البلد خشية تفشي وباء كورونا كي تعيد فتحه، والأسواق الشعبية وغيرها من الأسواق والدكاكين، كبيرة أم صغيرة، استمرت في العمل كأن الجائحة لم تصل إلى البلد.
الدوائر الحكومية يجري العمل فيها على قدم وساق وكذلك الشركات والمصانع. ومن شرفة بيتي الذي يطل على حديقة جميلة وبحيرة أخاذة، أرى الآن معلمتين تقودان مجموعة من أطفال الروضة في نزهة وبعدها غداء في الهواء الطلق.
وبينما نسمع جدالا يدور في هولندا مثلا حول إن كان بالإمكان السماح بفتح دكاكين الحلاقة بعد غلق استمر نحو شهرين، لم تقفل السويد دكانا واحدا.
وإذ نرى الناس في بعض المدن وهم يمشون في الشوارع وجلين والكمامات على وجوههم، وبعضهم من الآخر خائف وبعيد، كانت عشرات الناس يجرون في الحديقة المجاورة لبيتي ضمن فريق رياضي وأجسادهم يكاد يلتصق الواحد بالآخر.
من النادر جدا أن ترى سويديا في يديه قفازات وعلى وجهه كمامة حتى في العيادات والمستشفيات.
ما الذي يدفع السويد أن تشذ عن العالم في طريقة معالجتها ومواجهتها لهذا الوباء الفتاك، الذي أقفل أغلب دول العالم، وبعضها الذي يريد العودة إلى الحياة الطبيعية يسير خطوة إلى الأمام وأحيانا خطوتين إلى الخلف خشية منه؟
إن أخذنا عدد الذين وافتهم المنية في السويد بسبب الوباء، وبلغ عند كتابة هذه السطور في الثلاثاء المنصرم 3,313 حالة، لرأينا أنهم في أقل تقدير ثلاثة أضعاف الموتى في الدول الإسكندنافية المجاورة مثل: فنلندا والنرويج والدنمارك. أما الإصابات، فإنها فاقت 27 ألفا.
مع المرارة والأسى والحزن الذي تبديه خلية العلماء، التي تستند إلى آرائها الحكومية في سياسة مواجهة الجائحة للعدد المرتفع للوفيات والإصابات، إلا أن السويديين بصورة عامة مرتاحون ومرحون وسعداء بأن يروا دنياهم تسير بشكل طبيعي والدنيا حولهم وحول العالم تئن تحت وطأة الإجراءات القسرية.
ويكاد أندش تيكنيل، العالم الشهير الذي يقود خلية الأزمة تعلنه السويد بطلا بعد أن صار أيقونة. صور تيكنيل وليس ملك السويد أو رئيس وزرائها، أخذ السويديون يطبعونها على قمصانهم ويوشمون رسوما تمثله على أيديهم ويمشون الهوينة في الأسواق.
وهذا ما لاحظته بأم عيني في زيارتي للسوق الشعبية في مدينتنا وأنا أراقب شابا تزين قميصه صورة تيكنيل، وكله مرح وسعادة وهو يحمل سلة فيها شتلات الطماطم والخيار والقثاء، السوق الشعبية فرصة لاقتناء الشتلات الأصيلة وبسعر زهيد، وهذا كان سبب وجودي هناك يوم السبت الفائت لأنني مولع بالبستنة.
هناك أكثر من مؤشر إلى أن التمرين السويدي في مواجهة وباء كورونا ربما أتى أكله، وأغلب دول العالم تحاول ببطء شديد وحذر السماح بعودة الحياة إلى مرافق محددة وخطوة خطوة، والسويد مرافقها مفتوحة والحياة فيها طبيعية.
وإن كان هناك شعب في الدنيا مولع بالتمتع بالحياة ومباهجها وبالطبيعة وأشجارها في الربيع، وثلجها وجمادها في الشتاء والألوان البهيجة عند شحوب أوراق أشجارها وتساقطها في الخريف، واعتدال حرارتها في الصيف، فهم السويديون.
والكل تقريبا على بينة في السويد أنه لولا عالم الدولة لشؤون الأوبئة، تيكنيل، لكانت السويد أقفلت دارها وسدت أبوابها وأغلقت شبابيكها كما فعل جيرانها وأغلب الدول الغربية الأخرى من أقرانها.
ورغم ثباته على مواقفه، فإن تيكنيل لا يضيق صدره بالأسئلة المحرجة، التي يوجهها له الصحافيون في طلته اليومية تقريبا على الإعلام، ويقول: إنه يتحمل مثلا المسؤولية لعدم وضعه في الحسبان تقديم حماية أكثر صرامة لبيوت ودور المسنين، حيث النسبة الغالبة من الموتى والإصابات هي في صفوف كبار العمر في السويد.
وهو يظهر في الإعلام بلباسه البسيط من قميص متدل وبنطال عادي، ورباطة جأش وهدوء وصوت خافت، شأن الأكاديمية السويدية عموما، فإن كثيرين يرون أنه يستحق التكريم وإن لم ولن يطلبه.
موقفه المعلن هو أن العالم أمام وباء وفيروس خبيث جدا، وأن أي طريقة في مقاومته واحتوائه قد تنجح أو تفشل، وأنه ليست هناك طريقة أفضل من الأخرى، ولهذا فإنه يحذر السويديين من أنه قد يغير سياساته لو استجدت أمور خطيرة.
لكن كل المؤشرات حتى الآن تدلل على أن تيكنيل قد ينجح في مسعاه في نهاية المطاف، والله أعلم وهو خير العالمين.
إنشرها