العرب .. جود وكرم لم يعكر صفوه البخلاء

العرب .. جود وكرم لم يعكر صفوه البخلاء
قيم السخاء والإيثار صفات يفتخر بها العرب؛ أفرادا وقبائل.

أظهرت جائحة كورونا قيم التضامن والتآزر المتأصلة في المجتمع العربي، مقارنة باستئساد النزعة الفردانية التي أعقبت حقبة الحداثة، ورسختها أفكار ما بعد الحداثة في الأوساط الغربية؛ حيث بدا عوار أسر فلسفة الحداثة بمنطلقات الرأسمالية واضحا للعالمين، مع عودة مظاهر الصراع "الانعزالية، الذاتية، القرصنة..." إلى البقاء بين الدول. مقابل ذلك، بدت المجتمعات الشرقية أكثر تراحما وتكافلا وإنسانية مع هجوم كورونا الكاسح.
تتجاوز قيم الإيثار والكرم اللحظة الراهنة، لتضرب في جذور التاريخ، إذ نجدها حاضرة في المجتمع العربي لما قبل الإسلام. في كتاب "ثمرات الأوراق" لابن حجة الحموي، نقرأ أن أجود "الجاهلية" ثلاثة نفر هم: حاتم الطائي وهرم بن سنان المري وكعب بن مامة الإيادي. ويبقى حاتم أشهرهم، ومضرب المثل في الأمصار، فيما الثاني؛ أي هرم بن سنان، هو صاحب زهير بن أبي سلمي، الذي قال فيه "تراه إذا ما جئته متهللا / كأنك تعطيه الذي أنت سائله". أما كعب ثالث الثلاثة فلم يأت عنه إلا ما ذكر له من إيثاره رفيقه بالماء حتى مات عطشا، بينما نجّى رفيقه.
صنف الأخباريون 11 جوادا في عصور الإسلام، في كل مرة يجتمع نفر منهم في مدينة في أحد العصور، فخمسة في البصرة، هم: عبدالله بن عامر بن كريز وعبدالله بن أبي بكرة وسالم بن زياد وعبدالله بن معمر القرشي وطلحة بن خالد الخزعي. وثلاثة في عصر آخر في الكوفة، هم: عتاب بن ورقاء الرياحي وأسماء بن خارجة الفزاري وعكرمة بن ربعي الفياض؛ الذي سمي الفياض لكثرة كرمه. واجتمع ثلاثة في الحجاز هم: عبيدالله بن العباس بن عبدالمطلب وعبدالله بن جعفر وسعيد بن العاص؛ الذي يحكى أن أحد جيرانه كان يعرض داره للبيع، وكان يقول "إنه يبيع جوار سعيد بن العاص" لترغيب الناس فيها. وعندما سئل قال، "وكيف لا يباع جوار من إذا سألته أعطاك، وإن سكت عنه ابتدأك، وإن أسأت إليه أحسن إليك".
يضيف صاحب "العقد الفريد" إلى هؤلاء، طبقة أخرى من الأكارم العرب، نذكر منهم: الحكم بن حنطب، الذي سأله أعرابي فأعطاه 500 دينار، فبكى الرجل من شدة الفرح، وأنشد يقول "فكأن آدم حين حان وفاته/ أوصاك وهو يجود بالحوباء، ببنيه أن ترعاهمو، فرعيتهم/ وكفيت آدم عيلة الأبناء". وكذا يزيد بن حاتم الذي أتاه أحدهم مستجديا، فانشغل عنه لحاجة ملحة يقضيها، فخرج الرجل من عنده وهو يردد "أراني ولا كفران لله راجعا/ بخفي حنين من يزيد بن حاتم"، فلما فرغ يزيد من أمره سأل عنه، فأخبِر بخبره، فأرسل في طلبه، وأمر بخفيه فملأهما مالا. فقال له ارجع بهما بدلا من خفي حنين.
كانت قيم السخاء والإيثار صفات يفتخر بها العرب؛ أفرادا وقبائل، ويتباهى بها شعراؤهم، حتى إن حاتم الطائي قال في ذلك، "وعاذلة قامت بليل تلومني/ كأني إذا أعطيت مالي أضيمها، أعاذل إن الجود ليس بمهلكي/ ولا مخلد النفس الشحيحة لؤمها، وتذكر أخلاق الفتى وعظامه/ مغيبة في اللحد بال رميمها، وقائلة أهلكت بالجود مالنا/ ونفسك حتى ضر نفسك جودها، فقلت دعيني إنما تلك عادتي/ لكل كريم عادة يستعيدها".
نظير الجود والكرم حضرت في التاريخ العربي خصلة البخل، بشخصيات وأحداث وحكايات، تولاها الأديب الألمعي أبو عثمان الجاحظ بالمديح والثناء في كتابه الشهير "البخلاء"، وفيه يقول، "إنه جمع في هذا الكتاب نوادر البخلاء، واحتجاج الأشحاء، وما يجوز من ذلك في باب الهزل، وما يجوز منه في باب الجد".
تناقلت مصادر تاريخية رأيا شاذا، يسقط عن العرب شيمة البخل، مؤكدا أنها دخيلة على قيم المجتمع العربي، حيث اقترنت بدخول أفواج الأعاجم إلى الإسلام. ومن بين ما يعزز به هؤلاء رأيهم، تندر العرب القدامى ببخل أهل مرو؛ وهي منطقة واقعة في خراسان، في غرب بلاد فارس. ويحكى أن من عادتهم عند الترافق في السفر، أن يشتري كل واحد منهم قطعة لحم، ويشكها في خيط، ويجمعون اللحم كله في قدر، ويمسك كل واحد منهم بطرف خيطه، فإذا استوى، جر كل منهم خيطه، وأكل لحمه وتقاسموا المرق فيما بينهم.
ليس الجاحظ وحده من اهتم بهذه الشريحة من الناس، فالأبشهي في "المستطرف من كل فن مستظرف" تحدث عن أن للعرب أربعة بخلاء، هم: الحطيئة وأبو الأسود الدؤلي وحميد الأرقط وخالد بن صفوان. ويحكى أن الحطيئة جلس يوما بباب داره، وفي يده عصا طويلة، فمر به شخص، قال له أنا ضيف. فأشار إلى عصاه، وقال "لكعاب الضيفان أعددتها". ويورد عن أبي الأسود الدؤلي أنه يتناول الرطب مع أعرابي فأكثر، ومد أبو الأسود يده إلى رطبة ليأخذها، فسبقه الأعرابي إليها، فسقطت منه في التراب، فأخذها أبو الأسود، وقال: لا أدعها للشيطان يأكلها. فقال الأعرابي: والله ولا لجبريل وميكائيل لو نزلا من السماء ما تركتها.
قيل لبخيل، قد رضيت بأن يقال عنك بخيل، قال لا أعدمني الله هذا الاسم؛ لأنه لا يقال فلان بخيل إلا وهو ذو مال. فسلم إليّ المال، وادعني بأي اسم شئت. وينقل ابن عبد ربه عن أحد رموز البخل يدعى محمد بن الجهم قوله، "وددت لو أن عشرة من الفقهاء، وعشرة من الشعراء، وعشرة من الخطباء، وعشرة من الأدباء، تواطأوا على ذمي، واستهلوا بشتمي، حتى ينشر عندهم ذلك في الآفاق، فلا يمتد إلي أمل آمل، ولا ينبسط نحوي رجاء راج". ويحكى أن أصحاب بخيل نزلوا ضيوفا في داره، فقالوا له، "إنا نخشى أن نقعد عندك فوق مقدار رغبتك، فاجعل لنا علامة نعرف بها وقت استحسانك لقيامنا"، فقال، "علامة قيامكم أن أقول: يا غلام، هات الطعام".
أنشد أحدهم بلسان بخيل يدعى أبا زرارة، فقال، "رأيت أبا زرارة قال يوما/ لحاجبه وفي يده الحسام، لئن وضع الخوان ولاح شخص/ لاختطفن رأسك والسلام، فقال سوى أبيك فذاك شيخ/ بغيض ليس يردعه الكلام، فقام وقال من حنق عليه/ ببيت لم يرد فيه المقام، أبي وابنا أبي والكلب عندي/ بمنزلة إذا حضر الطعام، إذا حضر الطعام فلا حقوق/ علي لوالديّ ولا ذمام، فما في الأرض أقبح من خوان/ عليه الخبز يحضره الزحام".
صحيح أن الكرم والإيثار والبخل والشح خصال رديفة التاريخ الإنساني، فهي حاضرة بدرجات متفاوتة في تجارب مختلف الشعوب والأمم على مر التاريخ، بيد أن ما يلاحظ في التجربة الإنسانية المعاصرة؛ خصوصا في الغرب، تنامي نزعة فردانية مفرطة، ستقود لا محالة إلى الهاوية، لعل مثلها الفاقع تلك الجرأة في الكلام عن كبار السن، باعتبارهم عالة وعبئا على المجتمع.

الأكثر قراءة