القوة القاهرة والظروف الطارئة .. اتفاق واختلاف
تضاربت في الآونة الأخيرة آراء المختصين من القانونيين سواء على المستويين المحلي أم الدولي في اعتبار فيروس كورونا قوة قاهرة أو ظرفا طارئا من عدمه، ومدى أثره في إبرام العقود والاتفاقيات سواء في الجانب المصرفي أو التجاري أو في نطاق التوريد والمقاولات أو في علاقة رب العمل مع العامل، أو غير ذلك، ولعلي أسلط الضوء على هذا الموضوع من عدة محاور:
أولا: من الضروري ابتداء معرفة مفهوم القوة القاهرة، وكذلك مفهوم الظروف الطارئة وتحديد محل النزاع في الفرق بينهما، حيث ورد في بعض تعريفات القضاء السعودي للقوة القاهرة أنها: كل حادث عام لاحق على تكوين العقد، غير متوقع الحصول عند التعاقد، وينجم عنه اختلال بين المنافع المتولدة عن عقد يتراخى تنفيذه إلى أجل، ويصبح تنفيذ المدين لالتزامه كما أوجبه العقد مرهقا إرهاقا شديدا، ويتهدده بخسارة فادحة تخرج عن حد المألوف.
كما أن مفاد نظرية الظروف الطارئة أنه في حال حدثت في أثناء تنفيذ العقد ظروف لم تكن متوقعة عند إبرام العقد فقلبت اقتصاداته وألحقت بالمتعاقد خسارة جسيمة تتجاوز الخسارة العادية المألوفة، فإن من حق المتعاقد المضار أن يطلب من الطرف الآخر مشاركته في الخسارة التي تحملها، فتعوضه عنها تعويضا جزئيا.
وعليه، فإن القوة القاهرة والظروف الطارئة تشتركان في أنهما لا تقعان على العقد إلا بعد إبرامه، ودون تدخل من أحد أطرافه؛ ما يؤدي إلى وجود عوائق وعقبات تحول دون تنفيذه جزئيا أو كليا.
وتختلفان في أثر الضرر الحاصل على العقد، فإذا أدى إلى استحالة تنفيذه جزئيا أو كليا فهو قوة ظاهرة، وإذا كان بالإمكان تنفيذه التنفيذ المرهق والمكلف فوق العادة فهو ظرف طارئ.
ثانيا: يمكن تطبيق هاتين النظريتين في أمرين: الأول يتعلق بالتأثير الذي يوقعه الحادث المفاجئ، ففي الظروف الطارئة يكون تنفيذ الالتزام عسيرا، وفي القوة القاهرة يكون تنفيذه مستحيلا، والثاني يتعلق بالأثر، فيترتب على تطبيق الظروف الطارئة تخفيف القاضي للالتزام برده إلى الحد المعقول قدر الإمكان، وعلى القوة القاهرة بانفساخ العقد، وإلغاء الالتزام، فلا يتحمل المتضرر تبعة عدم تنفيذه.
ثالثا: اهتم المنظم السعودي في تشريعاته بالإشارة إلى القوة القاهرة والظروف الطارئة لأهميتهما وأثرهما في التعاملات، فنجد نظام العمل السعودي تحدث في المادة الـ(74) عن القوة القاهرة وأثرها في العلاقات بين رب العمل والعامل، وكذلك ورد في المادة الـ(28) من نظام الاستثمار التعديني، والمادة الـ(18) من نظام الطيران المدني، والمواد (20-21-22) من نظام (قانون) الجمارك الموحد لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والمادة الـ(27) من نظام المواد الهيدروكربونية، والمادة الـ(31) من اللائحة التنفيذية لنظام الإفلاس، والمادتين (162-171) من النظام البحري التجاري، وغيرها من الأنظمة التي لا يتسع المجال لتفصيلها وذكرها.
رابعا: ثار الخلاف بين فقهاء القانون على اعتبار الظروف الطارئة والقوة القاهرة من النظام العام من عدمه، بمعنى أنه لا يجوز لأطراف العلاقة التعاقدية الاتفاق على استبعاد تطبيق حكم نظرية الظروف الطارئة، وهذا ما رجحه وأكده الإمام عبدالرزاق السنهوري؛ مع عدم اعتباره القوة القاهرة من النظام العام وخصها فقط بالظروف الطارئة، ولا يعني كونها من النظام العام أن القضاء ينظرها من تلقاء نفسه؛ بل لا بد من إثارة المتضرر لها والتمسك بها في أثناء نظر الدعوى.
كما أن إضافة بند القوة القاهرة والظروف الطارئة في العقود ليست إلا تأكيدا عليها فقط وإلا فلو خلا العقد من هذا البند فإنه لا يؤثر في اعتبار هذه النظرية من عدمها.
خامسا: من المستقر في مبادئ القضاء أن ظهور الأوبئة والأمراض يعد من قبيل الظروف الطارئة التي يتعذر معها تنفيذ العقد، وصدرت عدة سوابق قضائية تؤكد ذلك.
سادسا: ينبغي ألا تكون هذه الظروف الطارئة أو القوة القاهرة شماعة يعلق عليها كل متهاون أو متقاعس عن أداء التزاماته إخفاقاته، فلا بد لاعتبار هذه الظروف الطارئة أو القوة القاهرة من شروط وقيود تحددها وتقدرها السلطة القضائية.
سابعا: على أصحاب الشركات والمؤسسات والأفراد وغيرهم التريث في إقامة الدعاوى بشأن هذه الظروف لحين انفراج الأزمة وانكشاف الغمة - بمشيئة الله -، إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك، كأن يطلب أحد الأطراف مثلا عدم احتساب هذه المدة ضمن نطاق العقد.
ثامنا: خير مشورة تقدم لأصحاب الشأن والمتعاقدين هي أن يتم التفاهم الودي بين الأطراف، ويتحمل كل طرف جزءا من الخسارة مراعاة للظروف العامة، وبعيدا عن أروقة المحاكم، فجميعنا في قارب واحد وقافلة واحدة، ومن الظلم أن يتحمل الضرر طرف دون الآخر.
وأخيرا نستطيع القول: إن هناك من تأثر لدرجة أن الالتزام من قبله أصبح مستحيلا؛ ما يجعلنا نطبق نظرية القوة القاهرة، وهناك من أصبح الالتزام من قبله مرهقا، فيطبق في حقه نظرية الظروف الطارئة، وهناك كذلك من لم يتأثر نهائيا، فلا يطبق في حقه أي من النظريتين, وتقدير هذا وذاك راجع إلى السلطة القضائية.