Author

كورونا .. وسلوك الإنسان

|

يبدو العالم اليوم "موحَّدا" في صراع مع فيروس كورونا الجديد، "العدو مشترك"، الذي يهدد كل "إنسان" بمرض قد يودي بحياته؛ مرض ينتشر بالعدوى مسخرا كل إنسان مصاب لإصابة آخرين، لتتزايد بذلك الإصابات ويتضخم عددها وتنتشر مآسيها. أمام هذا العدو المشترك يبدو الإنسان، على الرغم من كل إمكاناته وما تراكم لديه من علم ومعرفة وأدوات وخبرة، عاجزا عن دفاع إيجابي عن نفسه، لاجئا إلى دفاع سلبي، هو الملجأ الوحيد أمامه. ويتمثل هذا الدفاع السلبي في "عزل الناس عن بعضهم بعضا" لحصر المصابين وحجبهم عن غيرهم، ومنع العدوى ووقف انتشار الإصابات وما تسببه من مآس. صحيح أنه تم تفعيل البحوث لإيجاد دواء يمكن الإنسان من دفاع إيجابي يحتاج إليه، لكن التوقعات لا تزال أقرب إلى المجهول منها إلى أدلة بدأت معالمها بالظهور.
يبرز أمام كورونا، وفي مواجهته، سؤال مهم يتفرع زمنيا إلى ثلاث فترات رئيسة. يبحث هذا السؤال في "سلوك الإنسان" في مواجهته، وذلك في "الماضي" عبر الفترة التي "سبقت انتشاره"؛ ثم في "الحاضر" في فترة "الانتشار" التي نعيشها؛ وأخيرا في "المستقبل" أي بعد أن يأذن الله تعالى في "تجاوزه". وسنحاول فيما يلي مناقشة هذا السؤال ووضع بعض الملاحظات والمرئيات بشأن الإجابة عنه. في هذا الإطار سنستخدم ثلاثية سلوك الإنسان المعروفة التي تتضمن "المعرفة Knowledge، والتوجه أو الموقف Attitude، إضافة إلى الممارسة الفعلية Practice". "فالمعرفة" تمثل مدى استيعاب صاحب السلوك للموضوع؛ ويعطي "الموقف" توجهه بشأنه؛ وتعبر "الممارسة" عن السلوك أو العمل الفعلي الذي يقوم به في التعامل معه.
إذا طرحنا مسألة سلوك الإنسان في الماضي، أي في فترة "ما قبل انتشار فيروس كورونا الجديد"، فإن علينا أن نركز على "أصحاب العلاقة" في مسألة "دعم البحث العلمي" والاستعداد لمواجهة مخاطر الفيروسات، خصوصا في الدول المتقدمة التي تقود العالم، وتتمتع بالخبرة والتقدم المعرفي. "فتوجهات هذه الدول ومواقفها وسلوكها" في قضايا البحث العلمي تمثل عوامل مهمة تتحكم في التقدم المعرفي في شتى المجالات، بما يشمل مجالات "العلوم الحيوية والفيروسات وتطورها"، وذلك لتمكين العالم من الاستعداد لمواجهتها باللقاحات والأدوية اللازمة عند الحاجة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن باحثين في مجالات "العلوم الحيوية والفيروسات الحديثة وتطورها" حذروا من تطور فيروس كورونا وانتشاره، ودعوا إلى الاستعداد لذلك والسعي إلى إيجاد الحماية اللازمة. جاء هذا الأمر بعد ظهور "فيروس كورونا سارس SARS-CoV"، المعروف "بالمتلازمة التنفسية الحادة"، في الفترة 2002 – 2003، الذي أصاب "ثمانية آلاف إنسان" في "26 دولة". ومن التحذيرات الموثقة، بحث تم نشره في عدد أكتوبر عام 2007، من مجلة "مراجعات العلوم الحيوية المجهرية المرضية CMR" التي تصدر عن "الجمعية الأمريكية للعلوم الحيوية المجهرية ASM". وهناك أربعة مؤلفين لهذا البحث ينتمون إلى مختبر متخصص في "جامعة هونج كونج Hong Kong Univ"، أبرزهم "كوك ينج يون Kwok Yung Yuen". وقد شمل البحث جملا تحذيرية تقول التالي:
"يمثل وجود مخزن من فيروسات مشابهة لكورونا سارس SARS-CoV في خفافيش حدوة الحصان Horseshoe Bats، إلى جانب وجود ثقافة استخدام الثدييات الغريبة Exotic Mammals كوجبات على مائدة الطعام لدى سكان جنوب الصين، قنبلة زمنية موقوتة Time Bomb"؛ "ولا يجوز إهمال الاستعداد لهذا الأمر".
وهكذا ظهر فيروس كورونا الجديد في الصين، وفي مدينة ووهان Wuhan، إحدى المدن التجارية الرئيسة التي يقصدها الناس من مختلف أنحاء العالم، لينتشر بعد ذلك دون مقاومة فاعلة بسبب عدم الاستعداد اللازم له. لم يأخذ أصحاب العلاقة "الموقف" الإيجابي اللازم تجاه "المعرفة" التي قدمها البحث السابق وما يماثله، ليجد العالم نفسه غير قادر على الاستجابة "لمتطلبات إبطال القنبلة الموقوتة" التي انفجرت مع الأسف وأضرت بالجميع. ولعل "الخطيئة" هنا أن الإنفاق الرئيس على البحث العلمي بقي موجها إلى المجالات التي تحقق "أرباحا مالية" من جهة، إضافة إلى تلك التي تفيد في "الحروب" بين البشر من جهة أخرى. وهكذا دفع العالم ثمنا باهظا اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا لقاء "موقف غير مدروس من تحذير معرفي مدروس".
وننتقل إلى "الفترة الزمنية" التي نعيشها في الوقت الحاضر، وهي فترة مواجهة الإنسان لفيروس كورونا الجديد، دون أن يكون لديه وسائل للدفاع عن النفس، سوى الانعزال عن الآخرين إلا لضرورات الحياة، من أجل الحماية من العدوى، إضافة إلى تبني السلوك المناسب في استخدام وسائل التعقيم لتنفيذ ضرورات التواصل وتأمين متطلبات الحياة الأساسية. أصحاب العلاقة، في هذا الإطار، هم الناس جميعا. أي أن "المعرفة" بهذا الشأن يجب أن تكون متاحة ومقنعة للجميع، كي يكون "الموقف" منها إيجابيا، والالتزام "بممارستها" حاسما. ولا شك أن للإعلام دورا مهما في هذا المجال. وقد حركت بعض الدول قدراتها العسكرية لفرض هذا الالتزام ومنع المتهاونين من اختراقه. ولعله لا بد من التذكير بمدى تسهيل "التقنية الرقمية" للتواصل عن بعد في كثير من المجالات.
ونصل إلى "فترة المستقبل"، عندما يشاء الله تعالى "لفترة كورونا" أن تنتهي. "المعرفة" التي يحتاج إليها الجميع لهذه الفترة المقبلة، هي "الدروس المستفادة" من المرحلتين السابقتين. فاستيعاب هذه الدروس ضرورة لاتخاذ "المواقف المناسبة"، ولتبني "الممارسات" اللازمة. ولعل بين الدروس المهمة ما يدعو إلى إعادة النظر في "أولويات البحث العلمي"؛ وما يحفز البشرية على "التضامن"؛ وما يفعل استخدام "التقنية الرقمية"؛ وما "يحد من التنقل"؛ وما يؤدي إلى "إدارة الوقت بشكل أفضل"؛ وما يسهم في "المحافظة على البيئة"؛ إضافة إلى ما يعزز "العلاقات الأسرية" بعد تجربة العزل في المنازل.
لا شك أن في حياة الإنسان فترات زمنية متعددة، تختلف في معطياتها وتتباين في تحدياتها، وعلى الإنسان أن يأخذ العبر من كل فترة ليس لذاته فقط، بل للأجيال المتجددة أيضا، فحياة الفرد الواحد محدودة مهما امتدت. وتبقى إرادة الله فوق كل حسابات "المعرفة والموقف والممارسة"، لكن علينا دائما أن "نعقلها ونتوكل".

إنشرها