ثقافة وفنون

أزمة كورونا .. تهدد التكنولوجيا وتنتصر للطبيعة

أزمة كورونا .. تهدد التكنولوجيا وتنتصر للطبيعة

تحول "الآخر" إلى مصدر تهديد وخطر على "الأنا".

أزمة كورونا .. تهدد التكنولوجيا وتنتصر للطبيعة

كان العالم بأسره حتى وقت قريب ينتظر حلولا من الألفية الجديدة.

كان العالم بأسره، حتى وقت قريب، ينتظر حلول عقد العشرينيات من الألفية الجديدة، حتى يختبر أحدث الابتكارات التقنية، فقبل أعوام بشرت الشركات العالمية القائدة للثورة الرقمية، بالذكاء الاصطناعي والسيارات ذاتية القيادة، وأخرى طائرة لحل معضلة الازدحام، وبتطوير هائل لتقنية الأوامر الرقمية الصوتية باستعمال خوارزميات ذكية، إلى غير ذلك، مما تسوقه هذه الشركات باسم "الطفرات التكنولوجية"، التي جاءت بغرض تحسين وتجويد خدمات المستخدمين، قصد تحقيق الرفاهية والسعادة لهم.
أسقط فيروس كورونا هذه المبالغات، كاشفا عن حقيقة قناع السطوة التقنية التي عجزت عن فهم تركيبة وسلوكيات فيروس مجهري، وفشلت في اقتراح حلول من شأنها تطويقه والقضاء عليه، أو على الأقل الحد من انتشاره، ما دفع الحكومات، في عديد من الدول، إلى سن أحكام الطوارئ الصحية، كأفضل خيار يمكنه أن يضمن السلامة في عام 2020، لتتأكد بذلك مقولة مؤسس "مايكروسوفت"، قبل خمسة أعوام خلت، حين قال بيل جيتس "إن العالم غير جاهز لمواجهة أي وباء".
يكاد يكون دور هذه الشركات اليوم شبه معدوم، مع تفشي الوباء في بقاع الأرض، فباستثناء دورها في توفير تلك الخدمات التقليدية المألوفة التي أسهمت في التخفيف من آثار الحصار الطوعي للإنسانية، لم تقو أي شركة - بما فيها التي تباهت بما قطعته من الأشواط في المجال الصحي - على الكلام بشكل علمي ودقيق عن الموضوع، فاختارت الصمت للتغطية على عجز، يفضحه نجاح فيروس في شهره الرابع، في وضع أكثر من نصف سكان الكرة الأرض، قيد الإقامة الإجبارية في المنازل.
هذا الوباء ليس الأول، ولن يكون الأخير في تاريخ البشرية، وعلى غرار جوائح وأوبئة سالفة كان لها دور حاسم في تغيير مسار التاريخ، سيترك كورونا خدوشا غائرة في وجه الإنسانية.
نجح كورونا في زعزعة اليقين والثقة بقدرة العلم على حل المشكلات، ودرء ما قد يتهدد الإنسان من مخاطر، وبدد من طغيان النزعة العلموية – نسبة إلى العلم - الواثقة؛ فقد وقف العالم بعلمائه وخبرائه ومختبراته وجامعاته وأبحاثه مذهولا، ذليلا أمام زحف الفيروس الفتاك، ما أحيى الشعور بالخوف والفزع في المجتمعات الحديثة، بعدما حسب الإنسان الحديث - فالحداثة في جوهرها انتصار على الخوف وانتقام من المجهول - أنه أودع هذا الشعور رفوف التاريخ، بفضل ما حصن به نفسه من معرفة وعلم، ليجد نفسه اليوم مسكونا بهاجس الخوف والرعب من مجهول يدهمه، ويوشك أن يفتك به.
لكن الخوف هذه المرة، ليس من المهاجرين والملونين أو المخالفين في الدين والعرق، بعد أن قلب الوباء بوصلة الهجرة إلى الجنوب؛ فقد تناقلت وسائل الإعلام الدولية وقائع وقصصا من أقطار إفريقيا، قدم لها رعايا دول غربية طلبات السماح لهم بالبقاء على أراضيها، والاحتماء بها من ويلات الجائحة التي تجتاح الغرب، الذي لم يعد جنة الأمان.
ففي إثيوبيا، رفض سياح إيطاليون مغادرة العاصمة أديس أبابا، مناشدين السلطات هناك تمديد إقامتهم خوفا من كورونا، ونقلت صحفية "لوموند" الفرنسية، في تحقيق مطول لها، قصص مئات من الفرنسيين في إفريقيا "السنغال، تونس، مالي، الكوت ديفوار..." فضلوا البقاء هناك، بدل العودة إلى بلادهم، الرد ذاته تلقته وزارة الخارجية البريطانية التي طلبت من رعاياها في الخارج التنسيق مع بعثاتها الدبلوماسية لترتيب إجراءات العودة، حيث جاء رد معظمهم "نحن بخير ولسنا متحمسين للعودة"، أكثر من هذا، اختارت الكاتبة إليس موريسون الهجرة المضادة، بعدما سارعت الزمن قبل إغلاق الحدود، مفضلة الهرب من المملكة المتحدة نحو الريف المغربي.
إنه الخوف من أهوال وجوائح، تعيد تذكير الإنسان بحجمه وأصله، فما من منفذ سوى الهرب إلى البيوت، والتواري وراء أبوابها المغلقة؛ لكن أي معنى للبقاء في المنزل؟ إنه استعادة للوظيفة البدائية للمنازل؛ أي الحماية من خطر الانقراض، تحت تهديد الوحوش المفترسة في الماضي، والمجهرية في الحاضر. كما أنه إعلان للقطيعة مع الفضاء العمومي، مع ما يرافق ذلك من تجرد أو انسلاخ عن الانتماء الاجتماعي، رغبة في ضمان البقاء على قيد الحياة. لقد تحول "الآخر" فجأة إلى مصدر تهديد وخطر على "الأنا"، وانقلبت المنازل إلى رياض وجنات بسبب العزلة والوحدة، بعدما عدها جبران خليل جبران ذات مرة "لولا الضيوف لكانت البيوت قبورا".
باختصار، لقد استطاع كورونا فجأة قلب كل شيء؛ فقد انحسر مختلف صور التفاهة في الحياة اليومية، وأيقن الإنسان أن لحظة الجد قد حانت، فاستدعى أهل الاختصاص "أطباء وعلماء وخبراء" إلى جبهة المواجهة والبحث عن الحلول، كما أظهر وهن آخر صيحات الطفرات التكنولوجية عن توفير الحدود الدنيا لحماية الإنسان، فارضا عليه - فيما يشبه الإكراه - العودة إلى الأساليب البدائية "العزلة" لضمان السلامة والنجاة، وكشف زيف جملة من الادعاءات؛ فالغرب لم يكن يوما قويا سوى بمقدار ضعف الشرق، فلا أحد بمقدوره أن يقبل السجال؛ ولو في الخيال، بشأن السرعة التي تتهاوى بها الأنظمة الصحية في الدول "المتقدمة".
يبدو أن إنسانية الألفية الثالثة نسيت دروس الحرب العالمية الثانية، فجاءت جائحة كورونا لتذكيرها من جديد، داعية إياها إلى تصحيح مسار مآلات الحداثة الزائغة، بنظامها الرأسمالي المفترس، وما نتج عنها من كوارث، من شأنها هدم البيت المشترك على الجميع.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون