Author

أثر الفيروس .. هل من إيجابيات؟

|

لا شك أن كورونا وضعت كل إنسان، وأسرة، ومؤسسة، ودولة، بل العالم بأسره أمام معضلة كبرى. الجميع أمام هذه المعضلة سواسية، باتوا جميعا، على مختلف المستويات، كيانا واحدا، وحدة استراتيجية واحدة تواجه خطرا واحدا يستهدف الإنسان، العنصر الرئيس الحي المحرك للحياة على المستويات كافة، وفي جميع المجالات. فالإنسان ليس مسؤولا عن ذاته فقط، بل هو مسؤول أو شريك في المسؤولية تجاه كل ما يقع ضمن دائرة تأثيره في مدى مستويات الحياة كلها وتنوع مجالاتها؛ فإذا كان الإنسان مستهدفا، فإن كل شيء في الحياة مستهدف أيضا.


الإنسان ليس مستهدفا في تلقي كورونا والإصابة بها فقط، بل هو مستهدف أيضا كوسيلة لنقلها إلى إنسان آخر، وربما إلى آخرين. أمام هذه المعضلة وفي غياب أي علاج موثق، برز الحل الوحيد في عزل الناس عن بعضهم بعضا لتجنب اللقاء بأي مصاب، أو شخص آخر، فكل شخص يمكن أن يكون مصابا، ناقلا للعدوى، ولا يدري أنه مصاب. وفي هذا الإطار، تم استغلال الفضاء السيبراني في تمكين الناس من العمل عن بعد، في كثير من المهن، وبالتالي تمكين كثير من المؤسسات العامة والخاصة من الحياة العمل، ولو بدرجة أقل من ذي قبل.


يمكن النظر إلى أثر كورونا من خلال محاور عدة سنركز على ثلاثة منها. يرتبط المحور الأول بجوهر الموضوع وهو أن خطر كورونا يهدد حياة الإنسان ويعطل نشاطاته وأعماله، لتصل أضراره بمستويات مختلفة إلى الجميع، حتى إلى من يجنبه الله المرض أو يمن عليه بالشفاء. أما المحور الثاني فيتمثل في حقيقة أن عزل الناس في المنازل يجمع الأسر قسريا ليجعلهم أقرب إلى بعضهم بعضا، ويحد حركتهم، موفرا استهلاكهم للطاقة، وتلويثهم للبيئة. ونصل إلى المحور الثالث المرتبط بالحقيقة التي فرضت على المؤسسات، وهي التقرب أكثر إلى التقنية الرقمية وتفعيل الاستفادة منها، وتسريع خطى التحول الرقمي. وسنناقش فيما يلي كلا من هذه المحاور وما تحمله من جوانب إيجابية.


إذا بدأنا بمحور كورونا كخطر مشترك، أو عدو مشترك للجميع، نجد أن من الحكمة أن تكون هناك مقاومة مشتركة لهذا العدو، سواء مادية يقودها عقل الإنسان البحثي العلمي، أو معنوية يعبر عنها قلب الإنسان ومشاعره الإنسانية تجاه البشرية المهددة التي ينتمي إليها. ويمكن لهذه الشراكة في مقاومة تهديدات كورونا على مستوى العالم أن تبعث شيئا من التضامن، ونبذ الخلافات والتفرقة، وإحلال العدل والمساواة في عقول الناس وقلوبهم، بصرف النظر عن اختلاف ثقافاتهم وأعراقهم وما يحملونه من أفكار وآراء. مثل هذا التضامن، إن أخذ طريقه إلى النمو، يضع الجميع في موقع الرابح في رد على فيروس كورونا الذي يحاول وضع الجميع في موقع الخاسر.


لا شك أن انتشار التضامن بين الناس، بل نشره أيضا، ثم الحرص على استمراره إلى ما بعد كورونا، طريق إيجابي نحو بناء حياة أفضل للبشرية في المستقبل. ويرتبط هذا الأمر بتفعيل قناعات الناس في هذا الاتجاه على مستوى العالم. وإذا كانت قناعات الناس وتوجهاتهم تتأثر بثلاثية المناصرة Advocacy، والتواصل Communication، والحراك الاجتماعي Social Mobility، كما يرى أصحاب دراسات تطوير سلوك الإنسان، فإن خير بيئة لتفعيل هذه الثلاثية هي بيئة كورونا التي نعيش فيها اليوم. والأمل أن تزدهر القناعة بأهمية التضامن، ويتعزز الإحساس بضرورته، من أجل تنشيط القدرة على مقاومة هذا الوباء، وكل وباء، وتحقيق الأمن والأمان للجميع في كل الأوقات.


وننتقل إلى محور عزل الناس في منازلهم من أجل تجنب عدوى كورونا. يجمع هذا العزل الآباء إلى جانب الأبناء، وكذلك الأجداد، فترات طويلة من الزمن، لم يكن توافرها ممكنا قبل ذلك. هذه الفترات الزمنية الطويلة تقرب الجميع إلى الجميع، معيدة للحياة الأسرية بريقا، ربما كان مفقودا في زحمة الحياة والمسؤوليات المهنية والاجتماعية المؤثرة فيها. ولعلها تنقل كثيرين أيضا من حياة تركز على أنا وعالمي الخاص، إلى حياة تهتم بنحن والعالم المشترك للأسرة. ولا شك أن الحياة في ظل نحن تحمل معاني للحياة أكثر قربا للوئام والسعادة.


يضاف إلى ما سبق أن عزل الناس في المنازل يجعل الخروج منها للضرورات فقط، ويؤدي هذا الأمر إلى محدودية الحركة في الشوارع، خصوصا في المدن ذات الكثافة السكانية العالية. وبذلك ينخفض استهلاك الطاقة، وتلوث البيئة أيضا لتصبح بذلك أكثر نقاء. ولعل التقارب بين أفراد الأسر، يجعل الناس أكثر ميلا للمكوث في المنازل والاستمتاع بذلك، بعد زوال كورونا، وإذا كان لا بد من الخروج من المنزل، يكون هذا الخروج جماعيا ومحدودا، يستمتع فيه الجميع ببيئة أكثر نقاء مما كانت عليه قبل كورونا.


ونصل إلى محور تسريع خطى التحول الرقمي، حيث يمكن هذا التحول الإنسان من العمل في المنزل لأداء كثير من مهمات الأعمال المهنية المختلفة. وعلى ذلك، فإن هذا التحول يحد حركة الناس، ويسهم في خفض استهلاك الطاقة، وتعزيز نقاء البيئة. وهناك أيضا فوائد مهمة أخرى على رأسها كفاءة وفاعلية كثير من الأعمال. ولا شك أن كورونا بكل سيئاتها ومآسيها أثرت في تفعيل التحول الرقمي وتسريعه، وجعل العمل عن بعد عبر الإنترنت ضرورة لا بد منها في كثير من الأعمال المهنية. وقد تحدثنا بشيء من التفصيل عن هذا الأمر في المقال الماضي الخاص بكورونا والعمل عن بعد.


وهكذا نجد أن أثر كورونا بكل مآسيها وثقل وجودها على حياة الإنسان أينما كان، يتضمن إيجابيات علينا الاستفادة منها. وقد ناقش هذا المقال أمثلة حول هذه الإيجابيات شملت: تعزيز التضامن الإنساني؛ وتفعيل الحياة الأسرية؛ وتسريع التحول الرقمي؛ إضافة إلى تنقية البيئة. ولا شك أن هناك دروسا أخرى كثيرة تستحق الاهتمام. والأمل في الله تعالى أن ينقذ البشرية من هذا الوباء القاتم، لتكون بعد كورونا أفضل مما كانت عليه قبله.

إنشرها