أعاد وباء «كورونا»، الذي يجتاح العالم، الحديث عن الكوارث إلى واجهة النقاش؛ فقد كانت حاضرة على مدار الوجود البشري على الأرض، وكان دورها حاسما في بعض المحطات من تاريخ الإنسانية. كان هذا الموضوع مجال اشتغال أنتوني لوينشتاين الصحافي الاستقصائي الأسترالي أعواما، قبل مجيء هذه الجائحة، في كتابه الضخم "460 صفحة" "رأسمالية الكوارث" الذي نقله المترجم المصري أحمد عبدالحميد إلى اللغة العربية، ضمن سلسلة "عالم المعرفة" الكويتية.
يتعرض الكتاب لكوارث ذات طبيعة خاصة؛ بعيدا عما ألفناه، حتى عند مقاربته تلك الكوارث المعتادة، فذلك يكون من منظور خاص؛ فالكوارث والأزمات - بحسب لوينشتاين - رديفة النظام الرأسمالي، ولا يتردد في تأكيد أن الأزمات عنصر مهم، لضمان بقاء واستمرارية هذا النظام، مستدلا على هذا بأقوال ميلتون فريدمان الاقتصادي الأمريكي، حيث يقول "وحدها الأزمة سواء الواقعة أو المنتظرة بإمكانها أن تحدث تغيرا حقيقيا"، كلام فصله في سياق آخر حين قال، "وحدها الأزمة قادرة على جعل المستحيل في السياسة حتمية سياسية".
تعد الكاتبة الكندية نعومي كلاين أول من نحت مصطلح "رأسمالية الكوارث"، عام 2007 في كتابها الذائع الصيت "عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث"، الذي مثل مرحلة جديدة في الكتابات المناهضة للرأسمالية، بأبعاد أخرى ومقاربات جديدة، بعيدا عن الكتابات الغارقة في الأيديولوجيا منذ أيام الثنائية القطبية "الاشتراكية / الرأسمالية". ولمع كتّاب كثر ضمن هذا التيار المناهض للرأسمالية؛ باستخدام تناقضات هذا النسق، من ضمنهم الكاتب فانك مكنزي، صاحب الكتاب المثير للجدل "الربح المفاجئ" (2014)، وأنتوني لوينشتاين؛ صاحب "رأسمالية الكوارث"، بكتابه المزعج "أرباح الموت".
حتى يقدم كتاب لوينشتاين قيمة مضافة إلى ما كتب في هذا المضمار، تقصى الكاتب عن الحقائق في أرض الميدان، ولم يقف عند حدود التنظير والسجال الفكري؛ فقد زار عديدا من الأماكن بحثا عن شواهد وأدلة تدعم أطروحته، وولج عوالم متخمة بالمال؛ وليس مجرد مال، بل أرباح فاحشة تجنى نتيجة استغلال الكوارث. وعمد كي يمنح فكرته طابعا شموليا، إلى تشطير كتابه إلى قسمين؛ عرض في الأول نتائج الاستغلال الرأسمالي في دول العالم الثالث، حيث تنقل بين أفغانستان وباكستان وهايتي وبابوا غينيا.. التي عرفت صعوبات، أدت إلى إلزامها سياسات معنية تسببت في إثراء نخب محلية وكيانات أجنبية. وركز في الثاني على الدول الغنية "الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا" التي توجد ذاتيا شروطا اقتصادية، ثم تلزم دول العالم بضرورة اتباعها، وتعاقب من يرفض الخضوع أو يعارض سياسة الإملاءات.
عند تعريفه كلمة "كارثة" يعمد المؤلف إلى توسيع نطاقها حتى تضم الشركات، التي ترسخ أزمة ما وتحصنها، ثم تسعى إلى ترويج نفسها الوحيدة التي لديها الحل لتلك الأزمة. فالنظام الرأسمالي يتعدى حدود استغلال الكارثة، نحو إطالة الأزمات والإبقاء عليها مستمرة، بهدف دعم وتشغيل صناعات، لديه حصة مالية فيها، ما يعني في المحصلة، أن العالم سيظل محكوما بأسواق لا تخضع للمساءلة، فرقابة الدولة على هذه الشركات صارت ضعيفة للغاية؛ أو غير موجودة في أغلب الأحيان، في عديد من الدول متقدمة كانت أم نامية.
أكثر من ذلك، يرى الكاتب أن الشركة باتت الآن أكثر قوة من "الدولة" - حتى "الأمة" -، فقد صارت تملي إرادتها، وتفرض شروطها عليها، وهذا يعزز فكرة حصول تحول عميق في السلطة، خلال النصف الثاني من القرن الماضي، أثبتته لغة الأرقام والإحصائيات، فمن بين 175 من أكبر الكيانات الاقتصادية في العالم، عام 2011، كانت هناك 111 شركة متعددة الجنسيات.
استطاع الكاتب أن يسقط القناع بالأمثلة والقصص السردية؛ بأسلوب رائع وبسيط، عن الأماكن التي بحث فيها حقيقة ملامح الوجه القبيح للنظام الرأسمالي، فالقاعدة هي الحفاظ على الأزمات حتى يواصل النظام ممارسة استغلال الشعوب، والاستفادة من المآسي الإنسانية للاجئين والكوارث الطبيعية والحروب والصراعات من أجل التربح والاغتناء، ومواصلة النهب الممنهج لخيرات ومواد هذه الأمم، واستنزاف ثرواتها الطبيعية لمصلحة الحكومات الغربية والشركات المتعددة الجنسيات.
كشفت تنقلات الصحافي بين أفغانستان وباكستان عن مغانم الشركات، تحديدا الشركات العسكرية الخاصة، من الحرب التي شهدتها المنطقة ضد الإرهاب، فغياب الأمن وانعدام الاستقرار وازدياد التوتر، كلها مبررات تضمن بقاء هذه الشركات في الميدان لتقديم خدماتها، إلى السفارات والصحافيين والمنظمات غير الحكومية وموظفي الأمم المتحدة..لذا تسعى هذه الأخيرة - بتواطؤ مع عملائها المحليين - إلى بقاء وديمومة هذا الصراع، من أجل مزيد من التربح، أو كما وصفها الكاتب "شركات تبقى على قيد الحياة، بفعل الفوضى".
ووقف في زياراته المتكررة لليونان على تحويل الأزمة الاقتصادية - التي ضربت الدولة عام 2008 - اليونانيين من بشر إلى مجرد أرقام، فعديد من الحكومات، التي تعاقبت على الدولة كانت على علاقات وطيدة بشركات، لدرجة يصعب معها الحديث عن وجود سياسة تتسم بالشفافية. كما سلط الضوء في اليونان وفي هايتي على الشبكات السرية، التي تشكلت لمساعدة الشركات على جني الأرباح من الأزمات والكوارث الاقتصادية.
في الغرب، يكشف الكاتب عن مظاهر هذا الاستغلال عند حديثه عن الكليات الجامعية التي تتلقى دعما من الحكومة الأمريكية، لكن همها هو البحث عن الربح المادي، وهي تثقل كاهل الطلاب بديون ضخمة وثقيلة مقابل أوراق اعتماد عديمة القيمة. وفي بريطانيا، يبرز كيف يواجه المواطنون، الذين يعيشون على الهامش الطرد من منازلهم أو الزيادة التصاعدية في قيم الإيجار، لأن المنازل يشتريها صندوق "ويستبروك" بوصفها أصولا من أجل الاستفادة منها لتحقيق الأرباح. ويشير بعد ذلك إلى أنه في أوروبا يلجأ كثير من الشركات ومن المحامين - دون خجل - إلى استغلال صفقات الاستثمار الدولية، بغية تحقيق أرباح من وراء رفع دعاوى قضائية، ضد دول تعصف بها أزمات.
يمثل هذا الكتاب مفتاحا أساسيا لمعرفة طبيعة الشركات الأجنبية العاملة في البلاد، وما تقوم به من أعمال ونهب الثروات، وكيف توظف هذه الشركات عمالها من أهل الدولة، وطبيعة مراكزها وطرق تمويل أنشطتها، وإدراك أن هذه الشركات هي نفسها جزء من المشكلة وليست حلا لها.
مختص: العالم سيظل محكوما بأسواق لا تخضع للمساءلة فرقابة الدولة على هذه الشركات صارت ضعيفة للغاية


