Author

«الآخر» في قاموس فيروس «كورونا»

|
أستاذ جامعي ـ السويد

 العالم اليوم خائف وقلق والخبيث "كورونا" يقتحم أعصى معاقله. مع كل هذا، أقول وبتواضع شديد إنني ضمن القلائل من البشر الذين يأخذون حذرهم كاملا لكنهم لا يخشونه ومستمرون في حياتهم كأنه لم يكن.

"الفيروس" شاغل الناس اليوم بعد أن ملأ الدنيا، وسأكلف نفسي وسعها كي أقدم لقرائي ما أراه مفيدا وسديدا وذا علاقة.
في الأسبوع الفائت قدمت موجزا لمراقبة الناس والإعلام والحياة في السويد التي صار يضرب بها المثل لثباتها واستمرار الحياة فيها وفي أغلب المضامير رغم مئات الإصابات وعشرات الضحايا حتى الآن.
ليس من اختصاصي تقييم التجربة السويدية. الطب والصحة خارج علمي ومعرفتي، وحالي حال الناس أطبق التعليمات والتحذيرات والواجبات كالتلميذ في المدرسة.
ووصلتني رسائل عديدة من القراء، أغلبها يسخر من السويد لخروجها عن المألوف والمتعارف من الإجراءات والعالم برمته في حرب وذعر من هذا الشر الصغير "الواهن". ومنها من لعن السويد لأن نشازها واعتدادها بنفسها حسب رأي أصحابها، سيصعب مهمة القضاء على عدو البشرية المستجد.
 وكي لا أطيل وأتعب القارئ في قيل وقال، فإنني أرى أن هذا الصغير المتخفي أظهرنا على حقيقتنا كبشر ومس كبرياءنا.
كنا نتباهى بصناعتنا وتكنولوجيتنا من الجيلين الرابع والخامس وهلم جرا، ونتفاخر بأجهزتنا الدقيقة التي تستشعر عن بعد وتحصي أنفاس العدو البعيد عنا وكنا قاب قوسين أو أدنى أن نعلن أن في إمكان ماكيناتنا الخوارزمية قراءة ما يضمره البشر.
وكنا نطبل لجيوشنا وطاقتها الفتاكة ومدافعها وصواريخها التي تهز الجبال و"أمهات القنابل" من الطرز والحمولات التفجيرية المروعة التي تقلب ما في باطن الأرض على رأسه، وبنينا نظما صاروخية تحلق في الكون وتقتنص ما يدور ضمن أفلاك بعيدة.
وها نحن شهود كيف أن "الفيروس" الذي لا نراه وما زال يلتقط ضحاياه بخفة مدهشة أظهر عقم كبريائنا وما نتفاخر به من ماكينات ووسائل لقهر الواحد الآخر.  تملكنا الخوف وحجرنا على أنفسنا أو فرض علينا الحجر ونعاني الضجر القاتل لأن كل ما صنعناه وما بنينانه من جيوش لكسب معاركنا مع الآخر هو في حال هذيان وخشية مما يضمره لنا من الشر هذا الذي أتانا من حيث لا ندري.
نحن أمام معركة إنسانية بكل أبعادها ومأساة وفاجعة تهز كياننا البشري من أساسه. نحن أمام عدو لا يميزنا ولا يقسمنا إلى، "نحن، أنتم، أنا والآخر"؛ ولا يصم أو يوسم أي مجموعة استنادا إلى فرز ثقافي أو إثني أو جنسي أو ديني أو طائفي أو غيره.
هذه معركة الإنسان تلقي على مسامعنا درسا في الأخلاق الإنسانية مفاده أن فرز القدر لنا إلى أمم وقبائل وأجناس وأديان ومذاهب وألوان وغيره هو أساس للتعارف والتقارب والحوار، وليس البعد والتشفي.
ونحن نواجه كبشر عدوا مشتركا يرفض فرزنا لا نكف عن إظهار الشر في داخلنا، وهنا أشير إلى تفاهة الخطاب الذي رافق مقدم هذا "الفيروس" المتطاير.
فكريا وفلسفيا وأخلاقيا، أبطل "كورونا" المستتر والمتخفي نظريات نقدية رافقت تقديمنا علومنا الاجتماعية وأبحاثنا ودراساتنا في البناء الاجتماعي لواقعنا وحقيقتنا، وفي مقدمة هذه المفاهيم، تأتي نظرية "الآخر" أو "الآخرون" التي تعزو الشر والمشكلة والتخلف إلى الآخر المختلف وتبرئ ساحة "الأنا" و"نحن".
لأول مرة لا ينحى اليمين الغربي المتطرف والكاره للآخر باللائمة على المساكين من اللاجئين والأجانب كما يفعل عند كل خطب ومشكلة.
وهذا لا يعني غياب أصوات عنصرية وطائفية في شتى أصقاع العالم خصوصا في الأسابيع الأولى لظهور "الفيروس" المخيف. فقد كان مواطنو جنوب شرق آسيا ولا سيما الصينيون منهم هدفا لممارسات عنصرية عانوا منها الأمرين ولم تهدأ حملة المعاداة هذه إلا بعد أن تفاقم المرض في الغرب وصار أثره المخيف محسوسا في مجتمعاته.
وقرأنا أصواتا عنصرية كارهة للآخر وذات منحى طائفي غايتها التشفي في الغرب والشرق الأوسط، وما زال مثلا هناك أطر خطابية عنصرية ينفثها بعض أركان الإدارة في البيت الأبيض.
مهما يكن من أمر، نحن حتى الآن أمام جائحة ليس هناك "الآخر" أو "الآخرون" في معجمها.
الإنسان يجد "الآخر" أو الآخرون" ويمنحهم مرتبة أدني في سلم الهرم الاجتماعي من "أنا" و"نحن". "الفيروس" لم نقدر على مطاوعته إلى الآن، وهو لا يعرف التمييز بين "أنا" و"الآخر".
وإن سيطرنا على "الفيروس"، سنبوبه ونفرزه كي يوائم فرزنا وتصنفينا لأنفسنا في خانة "أنا" و"الآخر".
مفهوم "الآخر" أو "الآخرون" فلسفة ترعرعت في أحضان الغرب لتفسير لماذا يكره أو يضطهد الإنسان "الآخر" الذي ليس "أنا" أو "نحن". و"الآخر" يشمل أيضا كل من يعارضنا أو يختلف عنا فكرا أو ثقافة.
والذي أشبع المفهوم نقاشا وأطر واحدة من أهم النظريات له هو المفكر إدوارد سعيد الذي اتكأ على علم الاجتماع لتفسير ظاهرة "الآخر" فكرا وممارسة في المجتمعات الغربية التي وفقا لكتاباته الشهيرة تنظر بدونية إلى الآخر المختلف وتحمله ليس فقط مسؤولية السلبيات في صوفه بل حتى مسؤولية السلبيات في مجتمعاته.
"الفيروس" الخبيث يعلمنا أن البشر بمشاربهم المختلفة هم "أنا" و"نحن" وليس هناك "الآخر" أو "الآخرون" في هجومه علينا حيث صار الكل في خانة ضحاياه المحتملين.

إنشرها