Author

«كورونا» تهاجم و«العالم» عاجز .. أين المشكلة؟

|

فيروسات "كورونا" Corona تهاجم الإنسان أينما كان، بل تستخدمه وسيلة لانتشارها إلى الآخرين، لا تفرق بين عرق وآخر، ولا ذكر وأنثى. شكلها كروي تقريبا، وقطرها كما تقول المراجع نحو 125 نانومتر، أي لا ترى بالعين المجردة، ولا حتى بالمجاهر العادية، فالنانو الواحد هو جزء من ألف مليون من المتر الواحد. بدأ هجوم "كورونا" من مدينة ووهان Wuhan عاصمة إقليم هوبي Hubei الصيني، ويبلغ عدد سكانها 11 مليون نسمة؛ وجاء إعلان ذلك آخر يوم من عام 2019. وأخذ الهجوم بعد ذلك في التوسع حول العالم بتسارع كبير ليشمل معظم دول العالم؛ ويبدو أنه عند كتابة هذا المقال ماض في ذلك بنشاط لا يتوقف أمام أحد، ولا يستثني من ذلك أحدا.


يقف العالم عاجزا أمام هجوم "كورونا"، ليس هناك علاج، بل ليس هناك حل لوقف الانتشار سوى عزل الناس عن بعضهم بعضا، كي لا يستغل الفيروس من أصيبوا به في نقل العدوى إلى الآخرين. نشاطات الأعمال، والتجارة تتراجع، والاقتصاد ينكمش، والتعليم يعاني، والتداعيات المقبلة مجهولة، والبعد الزمني يطرح التساؤل إلى متى، لكن الإجابة لا تزال معلقة، السلاح الوحيد الذي يملكه الإنسان لتفعيل بعض أعماله في هذه البيئة المظلمة هو التقنية الرقمية والعالم السيبراني، عالم الإنترنت وتطبيقاته غير المحدودة. فقد مكنت هذه التقنية بعض الأعمال من العودة إلى العطاء لتكون تجربة أولى في تفعيل التحول الرقمي، لكن في ظروف قسرية.


أمام هجوم "كورونا" وعجز العالم تبرز تساؤلات مهمة تبحث عن إجابة. لماذا يبدو العالم عاجزا وهو من حمل الإنسان إلى القمر قبل أكثر من نصف قرن؛ وهو الذي يمتلك أقمارا صناعية تسبح في الفضاء، تؤمن له الاتصالات، وتنقل المعلومات، وتستكشف الأرض، وترصد ثرواتها؛ طائراته تجوب العالم مرات ومرات كل يوم دون توقف. أسلحته متطورة، وقابلة للتوجيه آليا عن بعد، وتتمتع بقوة تدميرية هائلة، مهيأة للاستخدام في الصراعات بين الدول. بكل هذه الإمكانات يبدو العالم عاجزا عن مجابهة "كورونا".


ولعلنا نضيف هنا أمرا آخر، وهو أن العالم شهد عبر الزمن أحداثا كثيرة وأليمة من الصراع بينه وبين الفيروسات، لكنه لم يعطها حقها من الاهتمام كما فعل في الصراعات بين الدول. فمسألة فهم الفيروسات وإيجاد الطرق العلمية لتجنبها، والتعامل معها، والاستعداد لذلك تبدو غير كافية. وسنستعرض فيما يلي أمثلة حول صراع الإنسان مع الفيروسات عبر القرن السابق وما مر من القرن الحالي.


"كورونا" الذي يهاجمنا اليوم نوع من أنواع فيروسات الإنفلونزا Influenza. ولهذه الفيروسات أنواع متعددة أخرى تشترك في تأثيرها السلبي في الجهاز التنفسي Respiratory للإنسان؛ ويشمل ذلك الأنف والحنجرة والرئتين. ويختلف أثر هذه الفيروسات وسعة انتشارها تبعا لنوعها، وللحالة الصحية لمن يصاب بها، والأساليب والوسائل التي تستخدم في الحد منها. ولعل أسوأ ما خبره الإنسان حتى الآن من أثر الفيروسات الإنفلونزا، كان أثر فيروس الإنفلونزا الإسبانية الذي أصاب العالم عام 1918، وانتشر وباء جامحا ليصيب 500 مليون إنسان، أي نحو 27 في المائة من سكان العالم في ذلك الوقت، ويحصد أرواحا قدر عددها بأكثر من 50 مليون نسمة.


بعد وباء فيروس الإنفلونزا الإسبانية، شهد العالم أوبئة متعددة قادتها فيروسات إنفلونزا مختلفة. ففي الفترة 1957-1958، ظهرت فيروسات الإنفلونزا الآسيوية Asian وانتشرت في العالم لتحصد أرواحا تراوحت التقديرات بشأنها بين مليون وأربعة ملايين نسمة. ثم جاءت إنفلونزا هونج كونج Hong Kong، خلال الفترة 1968-1969، لتنتشر وتقتل مليون نسمة حول العالم. وكان لفيروسات الإنفلونزا بعد ذلك وخلال القرن الـ20 فعاليات أخرى أقل انتشارا، وأدنى تأثيرا.


في أواخر القرن الـ20، ومطلع القرن الـ21، أي خلال الفترة 1997-2003 انتشر فيروس إنفلونزا الطيور Avian Influenza، وتسبب في قتل ملايين الدواجن، إضافة إلى انتقاله إلى الإنسان وتسببه في مقتل 400 شخص. وفي الفترة 2002-2003 ظهر فيروس سارس-كوف SARS-CoV، ويأتي اسمه اختصارا لتعبير يقدم وصفا له هو المتلازمة التنفسية الحادة. وجاء هذا الفيروس إلى الإنسان من مصدر حيواني، وانتشر في 26 دولة ليصيب 8000 إنسان، ويتسبب في القضاء على عشرهم تقريبا. وفي عام 2009 برز فيروس إنفلونزا الخنازير Swine Flu، وجاء كسابقيه من مصدر حيواني، ويقدر عدد ضحاياه بنحو 250 ألف إنسان.


ولعل من المناسب أن نتذكر أيضا فيروس إيبولا Ebola، وهو لا ينتمي إلى فيروسات الإنفلونزا، إلا أنه فيروس قابل للانتقال من الحيوان إلى الإنسان، ويؤدي إلى ارتفاع درجة الحرارة، والإسهال، والنزيف، إضافة إلى إضعاف جهاز المناعة، وربما التسبب في الوفاة. انتشر هذا الوباء عام 2013 في غينيا والدول المجاورة لها غربي إفريقيا وأدى إلى وفاة نحو 6000 إنسان. هناك أيضا فيروس زيكا Zika الذي انتشر في البرازيل و23 دولة أخرى، خلال الفترة 2015-2016. وكانت عدواه تنتقل عبر البعوض، ويؤدي إلى ارتفاع درجة الحرارة، وظهور طفح جلدي، ويكون أثره محدودا في الكبار، لكنه كبير في الأطفال. وكسابقه، لا ينتمي هذا الفيروس إلى الإنفلونزا ولا يستهدف الجهاز التنفسي.


هجوم "كورونا" اختبار جديد لذاكرة الإنسان من أجل مستقبله؛ تقول له تذكر هناك أعداء أقوياء لحياتك، لا تراهم بعينك المجردة، لكنك بلا شك تدركهم بأثرهم الأليم في الجميع. عداء هؤلاء أقوى من عداء الإنسان للإنسان، وأكثر تأثيرا من عداء الدول للدول؛ ولا بد من اهتمام خاص بهذا الأمر. البحث فيه ضرورة للفهم، وإيجاد الحلول المناسبة للتعامل معه؛ والاستعداد له ضرورة أخرى للحد من آلامه؛ والتعاون على ذلك ضرورة ثالثة لحماية الجميع. أمام هجوم "كورونا" بات العالم وحدة استراتيجية واحدة لا تقبل التجزئة، التهديد موجه إلى الجميع، والمعالجة يحتاج إليها الجميع، والسباق بين الجميع لإنقاذ الجميع. وقبل كل ذلك وبعد يبقى الدعاء إلى الله تعالى أن يحمي الجميع.

إنشرها