Author

العزلة مؤشر انفتاح

|

أدرك السعوديون والمقيمون أن إسهامهم الكبير في الجهود الحكومية يتمثل في بقائهم في منازلهم، بعد اتباع الإرشادات الوقائية والاحترازية، وهو إسهام مهم جدا يساعد الذين نرفع أكف الضراعة لله أن يوفقهم ويعينهم من مسؤولين مباشرين ومخلصين، ومن الكوادر الصحية والأمنية على الثغور، وأيضا كوادر البلديات والتجارة وغيرهم ممن يساندون جهود الاحتواء على أكثر من صعيد.


من مسلمات التجربة الإنسانية على مر التاريخ أن الناس تغير عاداتها وقت الأزمات أكثر مما تفعل في الأوقات العادية، وهي مسلمة أثبتتها هذه الأزمة إلى حد كبير، ومعها أجد مسلمة أخرى تبرز جلية هنا، مسلمة قالها الشاعر العربي قديما، "لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم/ ولا سراة إذا جهالهم سادوا"، والجهل اليوم كما رأيناه في بعض قيادات الدول ليس نقيض العلم، بل ربما يكون "العلم المسموم" - إن صح الوصف.


الجهل بالفرق بين ثمن القرارات الصعبة وتبعاتها الاقتصادية، وبين قيمة الإنسان وتبعاتها الإنسانية والتاريخية وفي المستقبل السياسية والاقتصادية، والحمد لله أن لنا قيادة لم تتردد ثانية واحدة، والمطلوب اليوم ألا نتردد أبدا في إسهامنا الرئيس المطلوب، وأكرره، البقاء في المنزل، واتباع الاحترازات والتدابير الوقائية. من يعتزل ويعزل عائلته هذه الأيام هو المثقف الحقيقي، وهو بالفعل صاحب العقلية المنفتحة، وأزيد أنه صاحب الحس الوطني الأعلى، ثم هو صاحب الحس الإنساني الذي يخدم البشرية جمعاء.


وكما كان التعليم عن بعد، وهذه الأيام العمل عن بعد، سانحة لتقييم كثير من البنى الإلكترونية والأفكار الإنتاجية على مستوى العموم، فإن الاعتزال في المنزل سانحة عائلية مهمة لتقييم كثير من الأشياء، ليس على الطريقة الطريفة التي يتندر البعض بها على رب أو ربة المنزل، بل بالطريقة الصحيحة التي شوهتها التقنية، وكرستها العولمة، وهذه الأخيرة سقط بعض أقنعتها مثل سقوط أقنعة الرأسمالية المتوحشة، كما وصفها البعض.


لاحظ أحد الآباء أن الأسرة في لياليها الأولى أصبحت مائدة عشائها كحفلة صغيرة، ثلاثة أنماط مختلفة من الأكل، فكر أن يثور عليهم ويخبرهم أن الوضع يستدعي الاقتصاد في استهلاك التموين الغذائي الذي وفره لما يكفي أسبوعين أو ثلاثة لتقليل الخروج مستقبلا، تمهل قليلا، راجع نفسه، فأدرك أنه حقق مكسبا أهم هو أن الجميع سيأكل طعاما منزليا، وهذا يندر أن يحدث في كثير من الليالي، وأن الجميع على الطاولة، وهذا لا يحدث كثيرا بسبب نمط الحياة العصرية، فسكت، وقرر أن ينتظر بضعة أيام لتحقيق المكسب التالي.


شكرا لكل من بقي في منزله، وشكرا لكل من يغادره فقط لأن لديه واجبا في خدمة الوطن.

إنشرها