Author

بوصلة التعليم .. إلى أين تشير؟

|

لكل عصر "معطيات" يقدمها لمعاصريه، وله أيضا "متطلبات" يريدها منهم. وكلما توسعت المعطيات زادت معها المتطلبات. ولا شك أن في "التعليم والتعلم" يكمن "الجوهر" الذي يطلق "المعطيات"، وعليهما أيضا يقع عبء الاستجابة "للمتطلبات". ويتميز العصر الذي نعيش فيه بتسارع واضح في إنتاج معطيات متجددة، تفرز متطلبات متجددة أيضا، تحتاج إلى استجابة التعليم والتعلم لتحقيق تفاعل مطلوب مع الاثنين. فعلى سبيل المثال، عندما تبرز معطيات "الذكاء الاصطناعي" لتقدم كفاءة أعلى وفاعلية أكبر في أداء المهن الروتينية التي تمثل قطاعا واسعا في سوق العمل، يكون على التعليم والتعلم إعداد الإنسان القادر على الاستفادة من ذلك، كما يكون عليهما أيضا "تأهيل الإنسان" لأداء أعمال مفيدة تحمل قيمة لا يستطيع الذكاء الاصطناعي القيام بها.


ولعل من المفيد هنا الإشارة إلى ما بينته "اليونيسكو UNESCO" في تعريف مصطلحات التعليم والتعلم، حيث أوردت أن "التعليم" وسيلة من وسائل "التعلم"، و"التعلم" يمكن أن يكون ذاتيا أيضا بعيدا عن مؤسسات التعليم؛ وقد طرحنا ذلك بشيء من التفصيل، في مقال سابق.


أمام لعبة "المعطيات والمتطلبات" والتحديات التي تسببها للمجتمعات الإنسانية، خصوصا مع تسارع إيقاع نشاطات العصر الذي نعيش فيه، كان لا بد من العمل على معالجة الموضوع، والسعي إلى توجيه التعلم والتعليم نحو الاتجاه المناسب لذلك. ولعل بين أبرز الجهود العالمية في هذا المجال ما قامت به "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD" التي تضم في عضويتها 36 دولة، وتعرف عادة بـ"نادي الدول الغنية"، لأنها تضم دولا متميزة اقتصاديا من بينها الولايات المتحدة، واليابان، ودول أوربية عديدة. أطلقت هذه المنظمة، عام 2015، مشروعا أسمته "مستقبل التعليم والمهارات 2030 Future Education and Skills "؛ وتضمن هذا المشروع تقريرا حول فكرة "بوصلة للتعلم 2030 Learning Compass"، صدر عام 2019. وسنطرح مضامين هذه الفكرة فيما يلي.


غاية "بوصلة التعلم 2030"، تبعا للتقرير، هي تحقيق "رفاهية المجتمع Well-Being" أو المحافظة على هذه الرفاهية في "بيئة متغيرات العصر"، بين معطياته ومتطلباته. وقد ربط "أفلاطون Plato" التعليم برفاهية المجتمع في مدرسته "الأكاديمية The Academy" في "أثينا Athens" منذ أكثر من "2300 عام". وإذا كانت الغاية واحدة في ذلك الزمان الغابر والوقت الراهن، فإن معطيات العصور مختلفة، وكذلك متطلباتها، مع ملاحظة ضرورة الاهتمام بالاستفادة من تراكم الخبرات وتعزيز الإيجابيات التي تقدمها، والابتعاد عن السلبيات.


تتجه "البوصلة المطروحة" نحو ضرورة العمل على تحقيق "رفاهية المجتمع"، فما الطريق الذي ترسمه إلى ذلك؟ هي في الحقيقة لا ترسم الطريق بشكل محدد، وإنما تسعى إلى تزويد الساعين إلى التعلم بالإمكانات اللازمة التي تساعدهم على سلوك الطريق المناسب نحو الغاية المنشودة. في هذا المجال تسعى البوصلة أولا إلى وجود "فهم مشترك" لقضية التعليم والتعلم في هذا العصر بين أقطاب "اللعبة". ويشمل هؤلاء: "صانعي سياسات التعليم؛ والباحثين في مجالاته؛ ومديري المدارس؛ والمدرسين؛ وكذلك الطلاب؛ إضافة إلى الشركاء في المجتمع من أسر ومؤسسات تؤثر في التعليم والتعلم وتتأثر بهما أيضا".


تعد "البوصلة" أن "العناصر الأساسية المؤثرة في مسيرة حياة الإنسان" تتمثل في: "المعرفة، والمهارات، والقيم، والمواقف التي يتخذها في توجهاته". وفي إطار هذه المواقف تنصح البوصلة كل إنسان أن يكون "مبادرا فاعلا في مسيرته، مستندا في ذلك إلى معارفه ومهاراته وقيمه". وتطرح "البوصلة" أيضا "أربعة متطلبات تأهيل مهمة" يحتاج إليها كل إنسان في هذا العصر، وعليه أن يحرص على تعلمها.


المتطلب الأول هو "التأهل في مجال التقنية الرقمية والبيانات"، حيث بات ذلك ضرورة للتعامل الفعال والآمن مع مختلف أجهزة هذا المجال وخدماته. أما المتطلب الثاني فهو "التأهل الذي يؤدي إلى تجاوز الأمية"، فيما يتعلق بكل من القراءة والكتابة والحساب. ويهتم المتطلب الثالث "بإدراك شؤون المحافظة على كل من الصحتين البدنية والنفسية". ونأتي إلى المتطلب الرابع الذي يرتبط "بالتأهيل الاجتماعي والعاطفي" الذي يهتم بعلاقة الإنسان مع ذاته والآخرين.


بعد بيان "العناصر الأساسية المؤثرة في مسيرة حياة الإنسان"، وطرح "المتطلبات الرئيسة لتأهيله"، نصل إلى حاجة الإنسان إلى "ثلاث مزايا إضافية" مهمة ترتبط "بتوجهات الإنسان وسلوكه" واستجابته لمتطلبات العصر. تشمل الميزة الأولى قدرة الإنسان على "البحث عن قيمة" والسعي إلى إيجادها؛ وتتضمن الميزة الثانية تمكنه من "التعامل مع حالات التوتر" والسعي إلى إيجاد تسويات بين المتناقضات، عندما تبرز الحاجة إلى مثل ذلك. ثم تأتي الميزة الثالثة لتتطلع إلى "إيجابية الإنسان" في "تحمل مسؤولية" ما يقوم به من أعمال، والشراكة في المسؤولية عندما يعمل في إطار فرق العمل التي يشارك فيها.


وتبرز في البوصلة أخيرا "صفات عامة ثلاث" على الإنسان التحلي بها للإحاطة بكل ما سبق وإدارة ذاته وتوجهاته. ترتبط الصفة الأولى بالروح الإيجابية للإنسان وحرصه على "الإقدام على العمل Action" بجدية وأداء متميز. وتهتم الصفة الثانية بحس الإنسان وإدراكه "لانعكاسات Reflection" ما يجري من حوله، في إطار "بيئة العصر، والاستجابة لها بالشكل المناسب. أما الصفة الثالثة فتركز على بصيرة الإنسان ونظرته إلى المستقبل و"توقعاته Anticipation" بشأنه.


وهكذا نجد في "بوصلة التعلم 2030" "زادا نافعا" يهتم بتمكين الإنسان من توجيه عمله نحو ما يتطلع إليه، وصولا إلى تحقيق غاية "رفاهية المجتمع" المنشودة، في إطار بيئة العصر الذي نعيشه. وقد رأينا أن هذه "البوصلة" تنظم هذا "الزاد" في إطار أربعة مستويات متكاملة، تشمل: مستوى يعطي "عناصر أساسية تتعلق بمسيرة حياة الإنسان"؛ ومستوى يقدم "متطلبات تأهيله وتعزيز إمكاناته"؛ ثم مستوى يبرز "مزايا تختص بسلوكه وتوجهاته"؛ وأخيرا مستوى يبين "صفات للإحاطة بكل ما سبق وإدارته" بالشكل المأمول. وقد لا يكون هذا الزاد كافيا للاستجابة لمتغيرات العصر، لكنه يعطي "أسسا فكرية" تستحق أن تؤخذ في الاعتبار في توجيه مسيرة المستقبل. ولا شك أن علينا دائما التفكير في كل ما يسهم في معطيات العصر، وما يستجيب لمتطلباته.

إنشرها