Author

لندن وبروكسل .. مواقف «عنترية» بلون أحمر

|
كاتب اقتصادي [email protected]

في أعقاب الاستفتاء البريطاني التاريخي الشهير الذي أخرج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، ورد تعبير "الخطوط الحمراء" آلاف المرات في تصريحات ومواقف المسؤولين على جانب القنال الإنجليزي. وهذا التعبير صار مستهلا، وهو ليس حكرا على الأوروبيين، يستخدمه السياسيون في كل مكان على أمل الحصول على تنازلات هنا أو ليونة هناك. أصبح تعبيرا مبتذلا، وهم يعرفون أن "الخطوط الحمراء" في السياسة ليس بالضرورة أن يكون هذا لونها، وغالبا ما تكون "صوتية"، بمعنى أنك تسمعها "حمراء" لكنها قد تراها بيضاء، وفي أحسن الأحوال وردية. لا أحد يمكنه أن يستند إلى هذه المواقف المعلنة ذات اللون الواحد، على أنها نهاية طبيعية لأمر يجري التفاوض والجدل حتى التخاصم حوله. فالسياسة ترسم بكل الألوان.

مع ذلك تعج حاليا الساحة في الاتحاد الأوروبي وبريطانيا بهذه التصريحات التي يمكن أن نطلق عليها "تصريحات اللون العنتري". فالبريطانيون الذين يستندون إلى تفويض شعبي والحزب الحاكم الذي يتمتع بأغلبية أكثر من مريحة، يقولون ببساطة للأوروبيين، إذا لم توافقوا على رؤيتنا تجاه الاتفاق التجاري بيننا مطلع العام المقبل، فإننا ببساطة سنخرج من قاعة المفاوضات. أي ليس مهما أن يجمعنا اتفاق، وكل ما في الأمر أننا سنتعامل مستقبلا وفق أسس وقواعد منظمة التجارة العالمية. الأوروبيون يقولون: ليكن، غير أنه يجب عليكم أن تتحملوا أعباء مثل هذا القرار غير المسؤول، لا تنسوا أنكم وافقتم في اتفاق الانفصال على اللائحة السياسية الملزمة المرفقة به. وخرجتم بلا اتفاق؛ ما يعني أن بريطانيا لا تحترم التزاماتها، بصرف النظر عن أي مبررات.
لنترك هذا السجال جانبا الآن، لأنه سيكون سائدا على الساحة، طوال الفترة المتبقية من العام الجاري. فالموقف الأوروبي يبدو أشد وأكثر واقعية في حال الخروج النهائي بلا اتفاق، ويمكن اختصاره بالتالي "لن نقبل بنصف اتفاق، فإما اتفاق شامل أو لا اتفاق". لندن تسارع من أجل اتفاق يعطيها الحرية اللازمة لعقد اتفاق للتجارة الحرة بينها وبين الولايات المتحدة. وهذا الاتفاق في حد ذاته صار "مصيبة" حتى قبل أن تبدأ المفاوضات حوله، لماذا؟ لأن الاتحاد الأوروبي لن يقبل بالمعايير التي سيتركها اتفاق لندن - واشنطن على الساحة. فاللوائح الأوروبية تختلف كثيرا عن تلك الموجودة على الساحة الأمريكية؛ ما يعني أن بريطانيا لن تستطيع الوصول إلى السوق الأوروبية وهي ملتزمة باللوائح الأمريكية. باختصار، على الشركات البريطانية، بما فيها المالية، أن تقبل اللوائح الأوروبية إذا ما أرادت دخول السوق الأوروبية.
اللافت أن حكومة بوريس جونسون البريطانية متحمسة لصفقة تجارية مع الولايات المتحدة ستنتج "حسب المسؤولين البريطانيين" ما قيمته أربعة مليارات يورو لمصلحة لندن. لكن الخسائر مع عدم اتفاق مع أوروبا تفوق هذه العوائد التي يرى المعارضون للتوجه الحكومي أنها هزيلة للغاية. فضلا عن وجود المعارك التجارية أصلا بين واشنطن وعدد كبير من العواصم الأوروبية، وفي مقدمتها باريس وبرلين؛ بل حتى بين العاصمة الأمريكية ولندن نفسها، لاشك أن حكومة جونسون تريد هذا الاتفاق مع واشنطن بأي ثمن، لتأكيد ما تروجه منذ زمن، من أن "الفكاك" من عضوية الاتحاد الأوروبي يعني عوائد كبيرة للبلاد، إلى جانب الاتفاقات التي قد تعقدها بريطانيا مع بقية دول العالم خارج الاتحاد الأوروبي بالطبع. فلندن لا تزال تفضل اتفاقا مع أوروبا، مشابها لاتفاق كندا مع هذه القارة.
ليس واضحا بعد مدى إمكانية أن تبقى الحكومة البريطانية على خط التفاوض مع أوروبا حتى نهاية العام الحالي. فإذا غيرت من مواقفها الصلبة، وبدلت ألوان خطوطها الحمراء، فستحظى باتفاق أوروبي حتى قبل نهاية المدة المحددة. دون أن ننسى، أن الأمر لا يتعلق بالتجارة فقط؛ بل يشمل واحدة من أهم المعضلات بين الطرفين تلك الخاصة بالحالة الإيرلندية. ولا نبالغ إذا قلنا، إنها أهم حتى من تفاصيل الاتفاق التجاري المزمع أو لنقل المتعثر. فالمسألة ببساطة، أنه في حال خرج المفاوضون البريطانيون دون اتفاق كما يهددون، فإنهم سيضعون المسألة الإيرلندية في المقدمة غصبا عنهم. وهذا يعني، ضرب اتفاق السلام التاريخي بين جمهورية إيرلندا وبريطانيا، حول إيرلندا الشمالية، وهو الاتفاق الذي أنهى قرنا من الزمن من الحرب الأهلية في المملكة المتحدة.
أمام هذا المشهد الذي يزداد توترا يوما بعد يوم، ويعم بـ"اللون الأحمر"، ليس سهلا أن يصل الطرفان إلى اتفاق لا قبل نهاية العام الجاري، ولا حتى لو تمت إطالة مدة التفاوض. على الطرفين أن يجعلوا من "لونهم" فاتحا، قبل أن تنقطع الخطوط التفاوضية. فأوروبا المتمسكة بثوابتها، تقبل بالمرونة، بدليل أنها قبلت في آخر لحظة بهذه المرونة في تمرير اتفاق الانفصال الذي تعطل عامين في تنفيذه، لكن يبدو على الجانب البريطاني أن الأمر مختلف بعض الشيء، لأن الحكومة الحالية تمضي قدما مستندة إلى تفويض شعبي حقيقي. فهي لن تكون ملامة محليا إذا ما فشلت مفاوضاتها مع المفوضية الأوروبية، بصرف النظر عن العوائد الخطيرة لخروج نهائي بلا اتفاق؛ فضلا عن أغلبيتها البرلمانية الهائلة.

إنشرها