Author

المعايير الدولية لإدارة الابتكار في المؤسسات

|

طرحنا في مقال سابق ثمانية مبادئ لإدارة الابتكار في المؤسسات قدمتها المنظمة الدولية للمواصفات المعيارية ISO في وثيقتها حول أسس ومصطلحات إدارة الابتكار التي تحمل الرمز ISO 56000. وترتبط هذه المبادئ بالقضايا التالية: "قدرة الابتكار على تقديم قيمة مضافة للمؤسسة؛ ووجود قيادة مناسبة لتفعيله؛ ووضع رؤية وتوجهات استراتيجية لتوجيهه؛ ونشر ثقافة مناسبة لتحفيزه؛ والاهتمام بالتعاون الداخلي والخارجي لتعزيزه؛ وإدارة المخاطر لحمايته؛ والحرص على التكيف المناسب مع عمل المؤسسة لترسيخه؛ إضافة إلى استخدام أسلوب الأنظمة في دراسته وتقييمه وتطويره". وفي سبيل توسيع دائرة مشهد الابتكار في المؤسسات، سننتقل في هذا المقال من "مبادئ إدارة الابتكار" إلى "كيفية القيام بهذه الإدارة"، وسنناقش في هذا الإطار المعطيات الرئيسة الواردة في الوثيقة الدولية حول معايير "نظام إدارة الابتكار" وتحمل هذه الوثيقة الرمز ISO 56002.
يحدد "نظام إدارة الابتكار"، طبقا للوثيقة الدولية، كيفية القيام بهذه الإدارة من خلال الاستناد إلى مصدرين رئيسين: أولهما: "المبادئ الثمانية الرئيسة لإدارة الابتكار"؛ أما المصدر الثاني فهو الخطوات المنهجية للتطوير الدوري المستمر، المتبعة في شؤون إدارة الجودة Quality Management. وتشترك إدارة الجودة مع إدارة الابتكار في التوجه نحو استمرارية التطوير، وفي السعي إلى الارتقاء بالمؤسسة ومعطياتها، حيث ترتبط "الجودة" بتحسين الأداء، ويهتم "الابتكار" بالتجدد وتقديم معطيات متطورة غير مسبوقة.
تشمل منهجية "إدارة الجودة"، المعتمدة في "إدارة الابتكار"، أربع خطوات يجري تنفيذها دوريا. وهذه الخطوات هي تلك التي وضعها والتر شوارت Walter Shewhart، قبل نحو قرن من الزمان؛ وهي التي تبناها بعد ذلك وليم إدوارد ديمنج William Edwards Deming الملقب "بأبي إدارة الجودة"؛ وهي أيضا المنهجية التي توصي بها وثائق الجودة والابتكار الصادرة عن المنظمة الدولية للمواصفات المعيارية ISO.
الخطوة الأولى في هذه المنهجية هي "التخطيط" Plan وتهتم بوضع الأهداف وتحديد ما يرتبط بالفرص المتاحة والمخاطر المحتملة. أما الخطوة الثانية فهي "التنفيذ" Do، أي السعي إلى تحقيق الأهداف بما يتضمن جانبي "الدعم" Support المطلوب للتنفيذ من جهة، و"العمليات" Operation التي يجب تنفيذها من جهة أخرى. وتهتم الخطوة الثالثة بـ"الاختبار" Check، بمعنى مراقبة التنفيذ وقياس الأداء على أساس الأهداف المنشودة. وتأتي الخطوة الرابعة بعد ذلك، وهي خطوة "الفعل" Act التي تقضي باتخاذ القرار المناسب بشأن التطوير، وما يجب عمله للاستمرار في التجدد وتقديم عطاء أفضل، وتفعيل دورة المنهجية من جديد. وسنطرح فيما يلي مضامين الوثيقة الدولية لنظام إدارة الابتكار التي تستند إلى مبادئ هذه الإدارة، وذلك تبعا لكل من خطوات المنهجية الأربع.
تؤسس خطوة "التخطيط" لمتطلبات جميع الخطوات التالية. وهي ترتبط، نتيجة لذلك، بجميع مبادئ إدارة الابتكار التي تشمل: "القيمة، والقيادة المناسبة، والتوجهات الاستراتيجية، وثقافة الابتكار، والتعاون الداخلي والخارجي، وإدارة المخاطر، والتكيف مع عمل المؤسسة، وأسلوب الأنظمة في ترابط العناصر ونشاطاتها". ويتضمن عمل هذه الخطوة التركيز على أربع قضايا رئيسة. تهتم أولى هذه القضايا بالتعريف "بالفرص المتاحة والمخاطر المحتملة"، ثم تحديد أسلوب الاستفادة من الفرص، وكيفية التعامل مع المخاطر. وتعنى القضية الثانية بتحديد الأهداف ومتطلبات العمل على تحقيقها. وترتبط الثالثة بربط نشاطات الابتكار ومتطلبات إدارته بهيكلية المؤسسة. ثم تهتم الرابعة بوضع "ملفات" Portfolio متكاملة لمبادرات الابتكار وما يرتبط بها.
ونأتي إلى خطوة "التنفيذ" التي تشمل جانبي "الدعم المطلوب" من جهة؛ و"العمليات المستهدفة" من جهة أخرى. يركز جانب "الدعم" المطلوب على توفير "المصادر اللازمة" للتنفيذ بما يشمل: الموارد البشرية القادرة، والأساس المعرفي العلمي اللازم، والدعم المالي، والبنية الإدارية المناسبة، ناهيك أيضا عن إتاحة الزمن اللازم للتنفيذ. ويهتم هذا الجانب أيضا بقضايا: الكفاءة التنافسية لإدارة الابتكار، وتأمين الأجهزة والأساليب اللازمة لتنفيذه، والتوعية والتواصل داخليا وخارجيا بشأنه، وإدارة الإمكانات الفكرية المتوافرة، وحفظ حقوق الملكية الفكرية، إضافة إلى الحرص على التوثيق.
ويرتكز جانب "العمليات المستهدفة" في خطوة "التنفيذ"، على ثلاثة محاور رئيسة. أول هذه المحاور هو محور "التخطيط للعمليات والتحكم فيها". ويرتبط هذا المحور: بتوجهات الابتكار والخصائص المطلوبة لمبادراته، والإجراءات اللازمة لتنفيذها، إضافة إلى مسألة توثيق هذه المبادرات. ويركز المحور الثاني على تحديد كيفية تنفيذ كل من مبادرات الابتكار المطروحة، وما يرتبط بذلك من شؤون. ثم يقدم المحور الثالث إجراءات عامة للابتكار، وتتضمن هذه الإجراءات: "تحديد فرصة متاحة للابتكار تعطي قيمة، ثم وضع الفكرة الأساسية للابتكار المنشود، والعمل على التأكد من صلاحية هذه الفكرة، وتقديم الحلول المجسدة لها، إضافة إلى تنفيذها ووضعها موضع الاستخدام".
وننتقل إلى الخطوة الثالثة من المنهجية، وهي "الاختبار" وتهتم بموضوع قياس الأداء واستخلاص النتائج حول الوضع القائم، والقيام بتحليلها، والتدقيق في معطياتها، ومراجعتها بشكل دوري وتقديم التوصيات بشأنها. وتحتاج هذه الخطوة إلى "مؤشرات" للأداء تشمل مؤشرات كمية، ونوعية. وهكذا نصل أخيرا إلى الخطوة الرابعة من المنهجية، وهي خطوة "الفعل"، أي خطوة اتخاذ القرار بشأن "التطوير المطلوب". ويشمل ذلك تعزيز مكامن "القوة" وتقويم مواطن "الضعف"، والحد من "الأخطاء"، والعودة بالتالي إلى تكرار خطوات المنهجية والاستمرار في التطوير نحو آفاق التميز المتجددة.
لا شك أن تنفيذ "المعايير الدولية لنظام إدارة الابتكار في المؤسسات" من قبل المؤسسات العاملة في مجالات مختلفة، يعزز قدرتها على الابتكار، والتجدد والتطوير. لكن هناك أمران مهمان يجب أخذهما في الحسبان في هذا المجال. الأمر الأول: "مستوى التنفيذ"، أو بالأحرى مستوى "جودة تنفيذ" معايير إدارة الابتكار الدولية المقترحة، ومدى النجاح في إطلاق مبتكرات جديدة تحمل "قيمة". فهنا تكمن القدرة على المنافسة والتفوق على الآخرين، لأن هذه المعايير متاحة لجميع المؤسسات لاستيعابها ووضعها موضع التنفيذ. أما الأمر الثاني، فهو أن المعايير الدولية ليست "الحل الأمثل" لإدارة الابتكار، بل هي حل "مقبول" تم التوصل إليه عبر مبادرات ومناقشات وآراء لخبراء من مختلف دول العالم. وهذا الحل قابل للنقاش والتطوير نحو الأفضل وتحقيق مكانة تنافسية أعلى.

إنشرها