Author

كأن الاقتصاد العالمي ينقصه وباء

|
كاتب اقتصادي [email protected]

«تفشي فيروس كورونا المتحور الجديد يشكل تهديدا جديدا لآفاق النمو الاقتصادي»
كريستين لاجارد،

رئيسة البنك المركزي الأوروبي

تبحث منظمة الصحة العالمية على اسم لفيروس كورونا الجديد، حرصا منها على عدم ربط الاسم بمدينة ووهان الصينية التي انطلق منها هذا الوباء. وقررت تسميته مؤقتا  "2019 - إن كو في". لكن في المقابل يبحث العالم حاليا عن أولئك الذين أصيبوا بـ"كورونا" المسبب الأكبر للعدوى مقارنة ببعض الأوبئة التي مرت على البشر بما فيها "سارز" الذي انفجر عام 2003. فهذا الأخير قتل 774 شخصا، في حين بلغ عدد ضحايا "كورونا" حتى اليوم أكثر من 850. فالثاني أودى بحياة مصابين في مدينة ووهان أكثر مما أصاب "سارز" حول العالم. وبينما تبحث الحكومات عن مزيد من أدوات مقاومة الفيروس الجديد، والعلماء على لقاح ماحق له، تظهر على الساحة أعراض سلبية على الاقتصاد العالمي. وكأن هذا الاقتصاد يحتاج إلى وباء في هذه المرحلة بالذات.
أظهرت التجارب الماضية في التاريخ الحديث أن مدى التأثير المخرب لأي وباء يصل إلى مستويات مرتفعة على الاقتصاد العالمي. ومع تشابك أطراف هذا الاقتصاد في العقود الثلاثة الماضية بقوة، صارت الأضرار الاقتصادية الناجمة عن الأوبئة بشكل عام مرتفعة، بل خطيرة خصوصا إذا ما كان الاقتصاد الدولي نفسه يعاني هشاشة، كالحالة التي يعيش فيها حاليا. فهذا الأخير يسجل أبطأ نمو منذ الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت عام 2008، وهناك حروب ومعارك تجارية تسهم في تعميق هشاشته. يضاف إلى ذلك التباين المخيف في مواقف الدول المؤثرة في الساحة الدولية حيال التجارة والعلاقات الاقتصادية بشكل عام. وهذا التباين بلغ حدا أطلق معارك تجارية حتى بين الحلفاء أنفسهم.
في ظل هذا المشهد يضرب "كورونا" الساحة الصينية لينطلق إلى أطراف العالم. فالمصابون يتزايدون بسرعة فائقة، وصل عددهم في أقل من شهرين إلى أكثر من 14 ألف مصاب، لتنتشر مناطق الحجر الصحي للمصابين أو المشكوك في إصاباتهم في هذا البلد أو ذاك. حتى إن سفينة سياحية إيطالية تنقل ستة آلاف سائح، تحولت بكاملها إلى منطقة حجر صحي لهؤلاء، وخصصت بريطانيا طائرات متعددة لنقل البريطانيين العالقين في ووهان، بعد أن تم عزل المدينة المذكورة بالكامل. وهناك مؤشرات عديدة على أن هذا الوباء لن يتوقف سريعا. وفي تطور حزين مؤثر وله دلالات أيضا، مات الطبيب الصيني الذي اكتشف الفيروس متأثرا بـ"كورونا". حتى السلطات الصينية التي كانت متحفظة في بداية اكتشافه، لم تعد كذلك الآن، لأن النتائج تتحدث عن نفسها.
في غضون أسبوعين من انتشار "كورونا" اضطرت الحكومة الصينية إلى ضخ أكثر من 174 مليار دولار، لإيقاف نزيف أسواق الأسهم والمال، بعد تراجعات حادة في بورصتي شنغهاي وشينزن. حتى البورصات العالمية تأثرت بصورة كبيرة من جراء "كورونا" في حين أوقفت الشركات التجارية عملياتها في الصين كلها تقريبا. ورغم أن بكين تمكنت من توفير السيولة اللازمة في اقتصادها بصورة سريعة، إلا أن الأضرار لم تنته بعد. فالاقتصاد شبه مشلول، والمصانع والمحال التجارية مغلقة، والرحلات السياحية إلى البلاد توقفت تماما. والصين البلد الأكثر نموا قاطبة على مستوى العالم، باتت قلقة جدا على مستويات هذا النمو في المرحلة المقبلة. فحتى على صعيد النفط فقد أوصت اللجنة التقنية لمنظمة "أوبك" والمنتجين خارجها بتمديد اتفاق خفض الإنتاج الحالي حتى نهاية العام الجاري، نتيجة تراجع الطلب على النفط، بسبب "كورونا".
كل هذا وغيره من الانعكاسات الأخرى للفيروس الجديد، دفع المشرعين الاقتصاديين العالميين إلى التحذير من الآثار السلبية في الاقتصاد العالمي. فهناك آلاف الشركات الكبرى التي تأثرت بالحالة منذ البداية، ناهيك عن تلك المختصة بالسياحة والنقل. وفي بعض دول آسيا أقدمت الحكومات على خفض مفاجئ للفائدة لديها لمواجهة تراجع اقتصادي بات شبه مؤكد. وإذا لم يتم حصر الوباء في الفترة المقبلة، فإن العالم سيشهد تباطؤا اقتصاديا لا يتحمله بالفعل. صحيح أن أحدا لا يتحدث عن أزمة اقتصادية عالمية، لكن كل شيء بات واردا على الساحة، طالما أنه ليس معروفا بعد قدرة الدول على السيطرة على الفيروس القاتل. الاقتصاد العالمي فيه من "الفيروسات" السياسية-الاقتصادية في الوقت الراهن ما يكفي لإمكانية أن يدخل حالة من الركود.
كورونا" أظهر شيئا مهما بالفعل، وهو حقيقة أنه لا بد من التعاون الدولي، ليس فقط للوقوف في وجه "فيروس" قاتل سريع الانتشار، بل لتحصين الاقتصاد العالمي من أي تهديدات بهذا المستوى أيضا. أي لا بد من إعادة النظر في استراتيجيات الانطواء التي تتبعها بعض الدول الكبرى، وأدت إلى مواجهات اقتصادية يمكن تفاديها بالتفاهم وليس بالمواجهات، وبالاتفاقات المستدامة وليست الجزئية. هذا الفيروس ليس إلا امتحانا آخر لصناع القرار حول العالم، يمكنه التدمير الاقتصادي، بينما يقتل في الوقت نفسه أعدادا كبيرة متصاعدة من البشر. الوباء ليس صينيا فقط، بل هو دولي بكل معنى الكلمة.

إنشرها