default Author

علاقة الاقتصاد بالقيم الأخلاقية «3 من 3»

|


في القرن الـ19، كان شراء التأمين على الحياة في أمريكا يعد أمرا منافيا للأخلاق بوصفه تحديا لإرادة الله، وتحول الأمر– بفضل حملة دعائية استهدفت الكنائس- إلى اعتباره أسلوبا تحوطيا في التعبير عن الحب للأسرة. وفي أوائل القرن الـ20 في أمريكا، ظل بيع الممنوعات أمرا غير مقبول أخلاقيا لمدة 14 عاما حتى تم إلغاء الحظر في 1933، وحتى ستينيات القرن الماضي، كان يعد شراء اليانصيب عملا غير أخلاقي، وكان يحظر قانونا بيع منتجات منع الحمل عبر الولايات أو حتى استخدامها بالمنزل في ولايات عديدة. وكان دفع أجور معيشية للجنود العاديين أمرا منافيا للأخلاق حتى انتهاء عصر التجنيد الإلزامي وبداية عصر التجنيد التطوعي في سبعينيات القرن الماضي. وكان السماح بتقديم خدمة التلقيح الصناعي في قطاع الرعاية الصحية مثار خلاف حادا. وحتى ثمانينيات القرن الماضي، لم يكن من المقبول أخلاقيا السماح للرياضيين المحترفين المشاركة في بطولات "الهواة" كالألعاب الأولمبية.
ولا يزال من غير المقبول لعديد من الأمريكيين أن يكون التبرع بالدم بمقابل مادي، ولكن التبرع بمادة البلازما أو الحيوانات المنوية عادة ما يكون بمقابل. ولا يمكن لامرأة تلقي أموال مقابل التبرع بكليتها، ولكن يمكنها الحصول على مبلغ نقدي مقابل بويضاتها أو لحمل طفل كأم بديلة. وتتفاوت البلدان بدرجة كبيرة فيما بينها من حيث اختلاف المجالات، التي يسمح فيها بتطبيق آلية سعرية، فعلى سبيل المثال، بعض البلدان يجيز فيها القانون نشاط الدعارة، وبعض أنواع المخدرات التي تساعد على الاستجمام، في حين تمنع بلدان أخرى دفع فوائد على القروض.
وإذا كانت الحوافز السعرية قد أدت إلى "اضمحلال بعض السلع الأخلاقية والمدنية التي ينبغي الحرص عليها"، وفقا لساندل، لننظر إلى مقترحات أخرى أكثر راديكالية. فربما ينبغي خفض أو إلغاء رواتب العاملين في الرعاية الصحية أو التعليم أو العمل الاجتماعي أو الحكومة، لأننا لن نرغب في اضمحلال الفضائل الأخلاقية التي تقوم عليها هذه الوظائف.
وربما ينبغي علينا ألا ندفع مقابلا ماديا نظير إعادة التدوير أو تركيب عوازل الطاقة، نظرا لأن هذه الأعمال ينبغي القيام بها لمنفعتها البيئية، وليس للحصول على منفعة نقدية. وينبغي أن يكون العمل الخيري في حد ذاته هو المكافأة، التي تعود على صاحبه، نظرا لأن إعلان أسماء المانحين أو خفض التزاماتهم الضريبية يؤدي إلى اضمحلال الفضائل المدنية المتأصلة في العمل الخيري.
وهذه ليست مقترحات جادة، بل إن الغرض منها إثارة النقاش، ولكنها تثبت بالفعل أن الحوافز الاقتصادية لا تعد دائما بالضرورة غير متسقة مع الفضائل المدنية والأخلاقية، ولذلك حينما نرى تغير الآراء المجتمعية في بعض المعاملات الاقتصادية من حيث اتساقها مع الأخلاق من عدمه، تقتضي الحكمة ألا نفترض بعد الآن أن الحدود الأخلاقية الحالية ستظل قائمة في المستقبل.
والواقع أن الفكر الاقتصادي عندما خرج عن نطاقه التقليدي إلى مجالات أخرى غالبا ما أدى إلى نتائج مثمرة. فعلى سبيل المثال، استند خبراء الاقتصاد إلى أعمال غاري بيكر المتوفى الحائز جائزة نوبل وغيره في إثبات إمكانية إعمال الفكر الاقتصادي في تفسير ديناميكيات بعض الأمور، التي لم تكن تعد في السابق من الموضوعات الاقتصادية، كالزواج، وتربية الأطفال، والجريمة، والتمييز ضد مجموعات محددة من الناس. فقد أصبح الفكر السائد الآن على سبيل المثال أن القوات المسلحة ينبغي عليها جذب الموظفين عن طريق الأجور والمزايا والخيارات الوظيفية، بدلا من الخدمة الإلزامية.
والأمر ذاته ينطبق على مفهوم تسعير التلوث للنجاح في مواجهة المشكلات البيئية، مثلا عن طريق فرض تأمينات نقدية على العلب والزجاجات، وضرائب على السلع، التي تسهم في زيادة التلوث مثل البنزين، وشراء وبيع الشركات لتراخيص بعض الملوثات، التي تمثل حافزا على الحد من التلوث بتكلفة اجتماعية أقل.
وقد يرغب بعضهم في بناء سور حول الفضائل الأخلاقية والمدنية لحمايتها من زحف القيم الاقتصادية، ولكن كما تعلمت الولايات المتحدة في إطار محاولتها منع الكحوليات في أوائل القرن الـ20، فإن القوى الاقتصادية لا يسهل عرقلتها، وغالبا ما يثبت أن الأسواق محكمة التنظيم أداة أكثر عملية في موازنة القيم الأخلاقية والمدنية عن القوانين، التي تحظر سلوكيات معينة على أساس الجدليات الأخلاقية.

تأثير مفسِد
من الشكاوى الشائعة من دراسة علم الاقتصاد أنه "يعنى كليا بجني الأموال والثراء"، ولكن هذه حجة لا وزن لها تعكس صورة خاطئة عن علم الاقتصاد. فحتى الدورات الدراسية المعنية بمبادئ الاقتصاد الأساسية تركز على التفكير في كيفية التعامل مع المفاضلات، التي لا مفر من مواجهتها في عالم يعاني ندرة الموارد. وتناقش هذه الدورات الدراسية الأولية بالطبع العرض والطلب والأسواق، ولكنها تناقش أيضا السلوكيات المخالفة لمبدأ التنافسية، والتلوث، والفقر، والبطالة، ومزايا العولمة والتجارة ومساوئهما. ومن لديهم معرفة أكبر قليلا في مجال الاقتصاد يعلمون أن كبار الاقتصاديين — بدءا من آدم سميث، الذي ألف كتابا مهما بعنوان ثروة الأمم في 1776 — كافحوا على مدى أكثر من قرنين لحل قضايا عدم المساواة والعدالة وسيادة القانون والرخاء الاجتماعي.

إنشرها