default Author

علم الاقتصاد .. المنفعة وتحقيق المكاسب

|

تتمثل إحدى الشكاوى المعقدة من دراسة علم الاقتصاد في أن النموذج الاقتصادي الأساس يقوم على فكرة سعي الناس إلى تحقيق رضاهم الذاتي، "أي تعظيم المنفعة" وفق التعبير الأدبي وسعي الشركات إلى الربح، ومن ثم فإن من يدرسون الاقتصاد سيتحولون على الأرجح إلى أشخاص يؤمنون أيضا بأن الأنانية من الفضائل. لكن كي نكون واضحين، فإن الاقتصاديين أنفسهم لا يقولون إن الأنانية الزائدة أمر مرغوب. فكما كتب سميث عام 1759 في أول أعماله البارزة "نظرية الوجدان الأخلاقي The Theory of Moral Sentiments "يبدو إنسانا بغيضا للغاية من يشعر قلبه القاسي العنيد بنفسه فقط، لكنه لا يكترث على الإطلاق بسعادة الآخرين أو بؤسهم... لذلك فإن مثالية الطبيعة الإنسانية تكمن في الشعور بالآخرين أكثر من الشعور بالذات، وكبح أنانيتنا، وإطلاق العنان لمشاعرنا الطيبة، وهذا هو السبيل الوحيد لتحقيق التوافق بين البشر على مستوى الأحاسيس والمشاعر، ذلك التوافق الذي هو موطن جمال البشر وصلاحهم".
وقد يشعر الاقتصاديون بالظلم لأن هذه الشكوى تخصهم دون غيرهم. فعديد من المجالات الأكاديمية تدرس الجوانب القبيحة في السلوك الإنساني. فغالبا ما يتناول العلم السياسي والتاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع والأدب الإجحاف والإسراف والأنانية والشر، فضلا عن الشهوة والكسل والجشع والحسد والكبر والغضب والشره. لكن يبدو أن أحدا لا يخشى من أن الطلاب في هذه المجالات الدراسية الأخرى قد يكونون على وشك التحول إلى أفراد معتلين اجتماعيا. لكن لماذا يعد الاقتصاد علما مفسدا دون غيره؟ فخبراء الاقتصاد المختصون متدرجون على سلم الأيديولوجيات من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ما يعني أن التدريب في علوم الاقتصاد ليس محصورا في أيديولوجية بعينها.
وتشير بعض الشواهد إلى وجود علاقة بين دراسة الاقتصاد والسلوكيات التي تفتقر إلى حس التعاون والعاطفة. لكن الأبحاث التي تحاول الربط بين أحد مجالات الدراسات الأكاديمية وتغير الصفات الشخصية لم تكن نتائجها دقيقة للغاية عموما. فعلى سبيل المثال، توصل مسح أمريكي أجري في أوائل تسعينيات القرن الماضي إلى تزايد احتمالات عدم تبرع الاقتصاديين الأكاديميين للجمعيات الخيرية مقارنة بالأكاديميين في المجالات الأخرى، رغم أن الدراسة نفسها وجدت أن متوسط قيمة الهدايا التي يقدمها الاقتصاديون أعلى قليلا.
ويقارن عدد من الدراسات بين الطلاب الذين درسوا الاقتصاد وغيرهم ممن لم يدرسوه. ففي دراسة، سئل الطلاب في جامعة كورنيل عن رد فعلهم ورد الفعل المتوقع من الآخرين إذا حدث خطأ في فاتورة انتهى بحصولهم على عشرة حواسب آلية ودفع ثمن تسعة فقط. وبعد حضور محاضرة حول نظرية المباريات في الاقتصاد، أغلب الطلاب أجابوا بأنهم لن يبلغوا عن الخطأ وأنهم يعتقدون أن الآخرين لن يبلغوه أيضا، لكن دراسة أخرى استخدمت تجربة "إسقاط الخطاب" وفيها تركت أظرف غير مغلقة تحمل أختاما وعناوين وبداخلها عشرة دولارات وخطاب مختصر ملقى على الأرض قبل بداية محاضرات الاقتصاد ومحاضرات أخرى في جامعة جورج واشنطن. وأكثر من نصف الأظرف المتروكة في قاعات محاضرات الاقتصاد تم إغلاقها ووضعها في صندوق البريد والنقود داخلها، في حين أن أقل من ثلث الأظرف الملقاة على الأرض في القاعات الأخرى تمت إعادته إلى المرسل.
وهذه المقارنات بالطبع تعني فقط أن دراسة الاقتصاد تجذب أشخاصا أقرب في سلوكهم إلى تصرفات معينة، لا أن دراسة الاقتصاد تدفع الناس إلى القيام بهذه التصرفات. وقد أكدت بالفعل مجموعة من أبحاث علوم الاجتماع في العقود القليلة الماضية أهمية "الصياغة" أو "الإعداد"، فالطريقة التي يصيغ الباحث سؤاله بها أو يعد لموقف ما تؤثر بقوة في رد فعل الأفراد موضوع البحث. وفي دراسة أخرى، طلب من مجموعة من مديري الأعمال التجارية إعادة ترتيب 30 جملة، تضمن بعضها كلمات اقتصادية، مثل يواصل، الاقتصاد، متنام، الخاص بنا، وتضمن البعض الآخر كلمات لا علاقة بها بالاقتصاد مثل أخضر، شجرة، كان، إحدى. ثم انتقل المديرون إلى لعبة تقمص الأدوار، حيث قاموا بكتابة خطابات إلى موظف سيتم نقله إلى مدينة أخرى أو ستتخذ معه إجراءات تأديبية لتأخره عن العمل. ووجد الباحثون أن المديرين الذين قاموا بإعادة ترتيب الكلمات الاقتصادية كانوا أقل رأفة بالموظف في هذه الخطابات، نظرا لأنهم كانوا أقل تعاطفا معه ولأنهم شعروا أن من "غير اللائق من الناحية المهنية" إظهار هذا التعاطف.
وما يتضح لي من هذا النوع من الدراسات أنه ليس ضرورة "الحذر من دراسة الاقتصاد" لكن "الحذر من التأثر كثيرا بطريقة صياغة الأسئلة وبالسياق الأكبر المحيط بمواقف صنع القرارات". ولقد أصبحت متحفظا بمرور الأعوام حيال الأسئلة التي تصاغ بطريقة الغرض منها وضع الاقتصاد في موقف معارض للفضائل الأخلاقية في المناقشات الجدلية التي يكون فيها الفائز الوحيد من يستطيع حسم الجدال لمصلحته.
ولن يوصي أي عالم اقتصادي بالرجوع إلى كتاب في علم الاقتصاد كمصدر عملي للحكمة الأخلاقية الرفيعة. فكما ذكرتنا الأزمة الاقتصادية الأخيرة لمن كان يحتاج إلى تذكرة، لا توجد في علم الاقتصاد حلول لجميع مشكلات العالم الاقتصادية. لكن لنكن عادلين، فإن فلاسفة الأخلاق لا توجد لديهم حلول لجميع مشكلات العالم الروحية والأخلاقية.
وقد كتب العالم الاقتصادي الكبير ألفريد مارشال في كتابه الشهير مبادئ الاقتصاد الذي ألفه عام 1890 "علم الاقتصاد هو دراسة الناس في الحياة العملية اليومية". ولا يمكن لعلماء الاقتصاد إقصاء القضايا الأخلاقية المهمة عن مجال دراستهم وينبغي عليهم عدم السعي إلى ذلك. لكن فلاسفة الأخلاق عندما يناقشون موضوعات تمس الحياة العملية اليومية، لا يمكنهم أيضا إغفال أهمية الاقتصاد.

إنشرها