Author

ديمقراطيات وجمهوريات «فيسبوكية»

|
أستاذ جامعي ـ السويد


تتردد في الخطاب الغربي والإعلامي منه على وجه الخصوص مقولات مفادها أن الديمقراطية الغربية أصبحت في خطر ومعها "طريقة حياتنا" Our Way Of Life.
في أغلب الأحيان، وعلى الخصوص في فترات محددة، كانت اللائمة تقع على اللاجئين والأجانب.
بيد أن النغمة أخذت في التغيير الأعوام الأخيرة وصرنا نلحظ خطابا جديدا ينحي باللائمة على الحرية شبه المطلقة التي تمتلكها الشركات الخوارزمية الحديثة التي يرى الغرب فيها خطرا على الديمقراطية ونظم الحكم الدستورية في بلدانه.
هناك كثير من المصداقية للتحذيرات من أن الديمقراطيات الغربية صارت على المحك وأن الخطر المقبل ولد ونشأ وترعرع في أحضان الغرب ذاته.
وقد لا يخلو بحث أو مقال من التركيز على أن شركات خوارزمية مثل "فيسبوك" و"تويتر" قد تضخمت إلى درجة مخيفة صار من الصعوبة بمكان حتى على الحكومات التأثير في نشاطاتها.
وصارت أسماء مثل جاك دورسي صاحب "تويتر" ومارك زوكربيرج صاحب "فيسبوك" أشهر من نار على علم وتتسابق أو ربما تتقدم على أسماء رؤساء الدول.
مثل هاتين الشركتين ككتاب يحوي ما تحتوي عليه الدنيا من حق وباطل وكذب وصدق لا حد لصفحاته والصور الثابتة والمتحركة التي فيه ورغم هذا هناك صفحات فارغة غير متناهية في إمكان أي أحد أن يدلي فيها بدلوه بما يشتهيه.
وهذا الكتاب متوافر دون قيود وشروط. إن ملكت جهازا رقميا ذكيا -وهذا صار أمرا متاحا لأغلب الناس تقريبا– بإمكانك فتح الكتاب وتقليب صفحاته بسهولة ويسر والتعبير عن هواجسك وأفكارك ومواقفك دون تحر أو تمحيص أو تصحيح أو تحقق أو تدقيق.
وردت هذه الأفكار في ذهني وأنا أقرأ الهالة التي منحتها الصحافة لصاحب "تويتر" عندما قال إنه سيرفض نشر إعلانات سياسية في موقعه من الآن فصاعدا.
تصور الناس أن صاحب "فيسبوك" سيرد عليه بالتي هي أحسن. وخاب ظنهم، حيث أكد أن موقعه مفتوح لأي إعلان سياسي كان أو غيره حتى إن كان مزيفا ويفتقر إلى المصداقية.
شخصيا لا أرى أي فرق بين الموقفين. إن كان "تويتر" يرفض نشر الإعلانات السياسية لأن السياسة في جوهرها دهاء وكذب ونفاق، إلا أنه من ناحية أخرى يمنح مساحة مفتوحة للسياسيين كي يكتبوا تغريدات تنضح بالكذب والنفاق.
إذا موقف صاحب "تويتر" لا يذهب بعيدا لأنه لم يحمنا من أناس مؤثرين في حياتنا ومستقبلنا من نشر كذبهم على الملأ وترويجه على صفحاته.
الديمقراطية الغربية هي التي تختار هؤلاء السياسيين وإذا بنا نراهم يكذبون علينا في تغريدات تنقصها المصداقية وينشرها "تويتر" دون تحقق أو تمحيص وقد يقرأها عشرات أو ربما مئات الملايين من الناس العاديين الذين يتأثرون بها لأن تمييز الصدق عن الكذب يحتاج إلى البحث والتدقيق والتحقق المضني.
وهذا شأن "فيسبوك" أيضا وهي أضخم شركة أو قناة أو وسيلة إعلامية عرفها البشر طرا لأن أكثر من نصف البشرية مرتبط بها.
ما يخيف الناس هنا أن الكذب وعدم المصداقية والغش يهيمنان اليوم على الفضاء الخوارزمي وبسببه وصلت إلى سدة الحكم أحزاب يمينية في الغرب لا تتحرج من توجهاتها الشوفينية المعادية للآخر وبصورة علنية. ويتفق أغلب الباحثين أنه لولا "فيسبوك" و"تويتر" والإنترنت بصورة عامة، ما برزت وتأصلت ظاهرة اليمين الشعبوي المتطرف الذي كان منبوذا قبل نحو عقدين لكن أصبح محبوبا ومطلبا.
عندما نقرأ إحصاءات حديثة تقول إن أغلب الأطفال في عمر 11 عاما لهم جهاز هاتف ذكي اليوم، علينا أن نتصور كيف سيتسنى لهؤلاء فرز سنبلة الزيوان عن سنبلة الحنطة في يم لا قعر له ويغديه تدفق غير منقطع من المعلومات التي لا نفلح نحن الكبار في فرزها؟
كم هائل من الكذب ونظريات المؤامرة تدور رحاها في "فيسبوك" و"تويتر" ومع ذلك فإن الموقعين يعدان أهم مصدر للمعلومات والأخبار لأغلب الناس في الغرب وربما أغلب مناطق العالم الأخرى.
هذا عصر صرنا فيه لا نحتاج إلى وسطاء أو عيون أخرى ليس لشراء بضاعة محددة بل لبث وترويج ما نراه صحيحا وهو ليس كذلك. اكتب أي تغريدة حتى ولو كانت عدم مصداقيتها بوضوح الشمس في الظهيرة، فإن "تويتر" و"فيسبوك" لا يكترثان.
هذا ليس الحال في الصحافة الرصينة، حيث لا يزال الوسيط (المحرر) له دور محوري. التحرير وظيفته التحقق وتحقيق النزاهة والموضوعية قبل نشر المعلومة.
وهذا ما بدأت تخشاه الدول الغربية التي ترى أنه لم تعد هناك أي وسيلة إعلامية رصينة تتوخى الدقة والشفافية والنزاهة والموضوعية قبل نشر المعلومة في إمكانها الوقوف أمام جبروت "فيسبوك" أو "تويتر". مثلا، تغريدة من دونالد ترمب تصل وقبل إعادة تغريدها إلى أكثر من 60 مليون شخص في "تويتر"، بغض النظر عن صحتها أو عدمها أو بعدها أو قربها من أخلاقيات المهنة.
أي وسيلة إعلامية باستطاعتها منح الرئيس الأمريكي دونالد ترمب منصة مثل هذه دون رقيب أو تمحيص أو تدقيق للمحتوى؟ "نيويورك تايمز"، الجريدة الأكثر شهرة في العالم بالكاد تصل إلى خمسة ملايين قارئ. مع ذلك لن تقبل نشر تغريدة ترمب دون وضعها ضمن سياق المهنية العالية وأخلاقيات الصحافة الراقية التي تلتزم بها.

إنشرها