منوعات

الإرهاب «الأبيض» .. معركة الداخل الأمريكي

الإرهاب «الأبيض» .. معركة الداخل الأمريكي

الإرهاب «الأبيض» .. معركة الداخل الأمريكي

أعادت مجزرة مدينة إلباسو في الثالث من آب (أغسطس) الماضي، في ولاية تكساس الأمريكية، التي خلفت 22 ضحية و26 جريحا، وبعدها بساعات زرع مسلح الرعب بإطلاق نار جماعي في أحد أحياء دايتون في ولاية أوهايو، فقتل تسعة أفراد وأصاب 26 آخرين، قبل أن ترديه الشرطة قتيلا. وقبل أسبوع لقي ثلاثة أفراد مصرعهم في مهرجان للطعام في كاليفورنيا على يد مسلح مراهق، النقاش بشأن "الإرهاب الأبيض" في الولايات المتحدة، لا يمر أسبوع دون تسجيل حادثة من هذا الصنف على التراب الأمريكي، فوفق أحدث الإحصائيات تم تسجيل 255 حادثا منذ بداية العام الجاري فقط.
رفض ترمب عند تعليقه في المؤتمر الصحافي تصنيف الحادثة على أنها هجوم إرهابي، معبرا بأن ما وقع مجرد "خلل عقلي"، داعيا إلى الانكباب على إصلاح قوانين الصحة العقلية، قصد التعرف أكثر على الأفراد المضطربين المرشحين لارتكاب اعتداءات من هذا القبيل، وفرز المحتاجين للعلاج ممن تستدعي حالتهم الاحتجاز إن دعت الضرورة.
بهذا يصر الرئيس على طهرانية الجسد الوطني؛ أي نقاء العرق الأبيض، فاستخدام "المرض العقلي" يأتي لإبعاد تهمة "الإرهاب الأبيض" على الحادثة وعلى المجرم. فمفاهيم المرض العقلي وألعاب الفيديو... تصبح مبررات يمكن أن يفسر بها عنف الرجل الأبيض، فيما يحضر سرديات "الإرهاب" و"التطرف"... متى كان الجاني أجنبيا "عربيا، مسلما، مهاجرا، ملونا...".
تفسيرات الرئيس لم تقنع الكثير من رجال السياسة، فالديمقراطي بيت بوتيجيج المرشح للسباق الرئاسي المقبل عد في تعليقه على حادثة اعتداء تكساس "أن الأرواح التي أزهقت في الحوادث التي شهدتها عديد من الولايات "شارلستون وسان دييجو وبيتسبرج"، وعلى الأرجح أيضا في إلباسو، هي من نتاج إرهاب قومي أبيض". يشير إلى هجمات استهدفت في السابق كنيسة للسود ومعبدين يهوديين.
حتى بعض الجمهوريين لم يستسيغوا ما ذهب إليه ترمب، فقد غرد المسؤول الجمهوري في ولاية تكساس جورج ب. بوش، ابن شقيق الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، قائلا: "إن مكافحة الإرهاب هي أصلا أولوية، لكنني أعتقد أنه بات من الواجب حاليا أن تتضمن أيضا الوقوف بحزم في وجه هذا الإرهاب الأبيض".
مهما حاول الرئيس ومن معه الدفاع، عن أطروحة نقاء الذات، إلا أنهم يصطدمون بخلاصات الكثيرين من الباحثين المشتغلين بقضايا وملفات التطرف، ممن تنبؤوا منذ سنوات بهذا الوضع، من بينهم جي إم بيرجر "J.M Berger" الخبير والأكاديمي في جامعة كولومبيا وعضو مجموعة فوكس- بول للأبحاث في كتابه "التطرف". وكذا الأرقام التي نشرها مركز الأبحاث "نيو أمريكا" التي تفيد بأن أعمال العنف التي ارتكبتها القومية البيضاء المتطرفة أوقعت من الضحايا أكثر مما أوقعته الهجمات التي نسبت لمتطرفين دينيين في الولايات المتحدة.
في هذا السياق، تفيد دراسة إحصائية أعدها باحثون في جامعة جورجيا الأمريكية، تولت دراسة كل ما يتعلق بالهجمات الإرهابية في الولايات المتحدة الأمريكية ما بين عامي 2006 و 2015، بأن الهجمات التي شنها مسلمون تبلغ 12٫5 في المائة فقط من هذه الهجمات. بمعنى أن 87٫5 في المائة الأخرى من الهجمات شنها أشخاص لا علاقة لهم بالإسلام والعرب والمسلمين.
وقبلها بفترة، نشرت المجلة الأمريكية الشهيرة "فورين أفيرز" تحليلا مطولا عن الموضوع خلصت فيه إلى أن "المنظمات الجهادية لم تعد هي التهديد الإرهابي الأساسي الذي يواجه أمريكا. التهديد الإرهابي الأول يتمثل في أفراد وجماعات يحصلون على السلاح بكل سهولة، ولديهم أفكار يمينية أيديولوجية متطرفة شتى". هذا التهديد الإرهابي الجديد تحركه دوافع عنصرية وقومية، تستعدي كل شيء: الحكومة والمؤسسات والأجانب... ما يجعله مختلفا عن الأيديولوجية الجهادية.
يرى كثيرون أن المعركة الحالية، ينبغي أن توجه نحو "أعداء الداخل"؛ بحسب وصف الصحف الأمريكية، فالخوف الآن بات من الإرهاب الداخلي والعنصرية البيضاء. لكن المأزق الذي تتقاسمه أمريكا وعديد من الدول الغربية، هو استمرار نخبها الحاكم في مغازلة عواطف اليمين القومي المتطرف، بكثير من النفاق والأخبار المزيفة. وتعليق فشلها على الأصعدة كافة، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وأمنيا، بالتحريض على الآخرين باعتبارهم مهاجرين يسرقون عمل البيض، ويدمرون ثقافة الرجل الأبيض.
بالموازاة مع ذلك، تتكاثف هذه القوى وتتآزر فيما بينها بشكل لافت، فأحدث تقرير عن متابعة جماعات الكراهية في أمريكا يفيد بأن جماعات التفوق الأبيض بلغت منذ وصول ترمب إلى الحكم نحو 100 تنظيم من القوميين البيض، ونحو 90 فرعا للنازيين الجدد، ونحو 130 فرعا لجماعة "كوكلوكس كلان"، التي أسست عام 1866 أثناء الحرب بين الشمال الأمريكي وجنوبه.
سجل على دونالد ترمب أيضا تأييده، قبل ثلاثة أعوام، لمظاهرة الفاشية البيضاء الرامية إلى إحياء ذكرى الجنرال ربورت إي لي (1807 - 1870)، المعروف بكونه واحدا من رموز العنصرية، وتفوق العرق الأبيض، ودعمه للتظاهر ضد قرار ولاية فيرجينا القاضي بإزالة تمثال قائد القوات الكونفيدرالية في الحرب الأهلية الأمريكية. معتبرا في تغريدة له أن إزالة تماثيل لشخصيات من حقبة الكونفيدرالية تمزيق لتاريخ وحضارة الولايات المتحدة.
هذه المواقف وغيرها من التصريحات الداعمة بمنزلة محفز للمنتمين إلى التنظيمات القومية للمتعصبين البيض والمتعاطفين معهم، ممن أصبحوا شبكات تحولت إلى جزء لا يتجزأ من النسيج السياسي والاجتماعي في أمريكا وأوروبا. لدرجة أن تقارير عديدة تتحدث عن مجموعات يمينية متطرفة في أوروبا مثل "حركة جنود أودين" التي تتخذ من فنلندا مقرا لها، و"حركة جيل الهوية" في فرنسا وألمانيا، و"مجموعة الدروع والأصدقاء" في بلجيكا.
هذه الوقائع والأرقام والمعطيات تطرح عديدا من التساؤلات بشأن "داعش البيضاء" التي أطلقها ساسة أوروبيون على تيارات اليمين المتطرف التي تتبنى نزعة شوفينية ضد المسلمين والأجانب المهاجرين، وتتمسك في المقابل بالقيم الوطنية وبالهوية الثقافية والسياسية واللغوية. وما يتولد عنها من "إرهاب أبيض" بات يشكل خطرا على الديمقراطية الغربية العتيدة وعلى العالم. ألم يحن الوقت بعد لشن حرب عالمية على الإرهاب القومي الأبيض؟ أم أن المخيلة الغربية لا تزال أسيرة تصورها الكلاسيكي عن الإرهاب المرتبط بالأجنبي والغير، ما يعني أن المأساة ستتكرر في أزمنة وأمكنة أخرى ما دام التوصيف والتشخيص خاطئا، كل هذا ينذر بمستقبل دموي لا أحد بمقدوره أن يتنبأ بتفاصيله.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من منوعات