Author

مذبحة جزيرة سرنديب

|
أستاذ جامعي ـ السويد


قد لا يعلم بعض القراء الكرام أن "سرنديب" هي التسمية التي كان العرب يطلقونها على جزيرة سريلانكا. وهل أتاك حديث سرنديب؟
وسرنديب واحد من الأسماء الكثيرة لسريلانكا، وهو الدارج لدى الرحالة العرب الذين وصلوا إلى هذه الجزيرة النائية، وكذلك في الكتابات العربية القديمة. لن أدخل في أصل مفردة "سرنديب"، ولكن أقول إنها الجذر الذي اشتقت منه كلمة serendipity بالإنجليزية، التي تعني السعادة التي تنتاب المرء عند اكتشافه موهبة أو شيئا مصادفة.
ويسبغ أدب الرحالة لدى العرب مفهوم السعادة والبهجة على هذه الجزيرة وأهلها.
ويبدع العرب القدامى في وصف سرنديب وسكانها ودياناتها وثقافاتها وملوكها وجغرافيتها. وأي قارئ لهذه النصوص لا بد أن تسحره؛ لروعة الأسلوب وسلاسة اللغة ومن ثم مزج الواقع بالأسطورة والخيال.
وشخصيا قرأت صفحات كثيرة عن سرنديب والهند في "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" للشريف الإدريسي و"معجم البلدان" لياقوت الحموي والمخطوط غير المعنون لسليمان السيرافي و"المسالك والممالك" لابن خرداذبة و"آثار البلاد وأخبار العباد" للقزويني وغيرها.
وقبل الشروع في طرح بعض الأفكار وتقديم بعض المواقف أقول إن ما حدث من مذبحة مروعة في هذه الجزيرة الجميلة الساحرة مدان، ومقترفوها مجرمون ووحوش.
والأفكار والمواقف التي سأعرضها هنا هي جزء من دراسة وبحث شرعت فيه قبل عدة سنين لجمع المعلومات عن الخطاب الديني خارج نطاق الدول الشرق أوسطية المسلمة والدول الغربية "المسيحية". فزرت سرنديب والهند. رحلتي إلى الهند كانت قبل خمس سنوات وإلى سرنديب في العام الماضي. كل رحلة كانت تستغرق نحو شهر، أنتقل فيها من مسجد إلى كنيسة إلى معبد، وأتحدث مع الناس وأقابل رجال الدين وأحضر حلقات الذكر والصلوات وطقوس التعبد لدى أتباع الديانات المختلفة من هندوس وبوذيين والسيخ والمسلمين والمسيحيين والبهائيين. "البهائيون لهم وجود ملحوظ في نيودلهي".
وفي دفاتر ملاحظاتي وتسجيلاتي الرقمية كثير من الملاحظات، بيد أنني سأركز على عدد محدد منها، وبما تسمح به المساحة المخصصة لهذا "المقال".
وهذه الملاحظات ليست ملاحظات عابرة، بل إنها راسخة ومتجذرة في الدولتين، وذلك لتكرارها ومن ثم توافرها في أكثر من منطقة.
وأنا سأركز على المسلمين لأن الأغلبية الساحقة من قرائي من المسلمين، ومن ثم فإن المسلمين في الهند وسرنديب وبنجلادش وجنوب شرق آسيا عامة لهم خصوصية ثقافية ربما لا مثيل لها في العالم.
وقد ينسى البعض أن المسلمين في جنوب شرق آسيا يشكلون الأغلبية العظمى من العدد الإجمالي للمسلمين في العالم.
وأغلب هؤلاء دخلوا الإسلام والفتوحات الإسلامية لم تصل ديارهم. انجذبوا إلى الدين الجديد تيمنا بالزهد والنسك والأمانة والتصوف والخشوع والتسامح ومحبة الآخر لدى أتباع الإسلام بين ظهرانيهم.
وهذه الصفات الحميدة كانت أهم ملاحظة لي عند جمعي للخطاب وأطره وسياقاته لدى المسلمين، وما يحمله أغلب أتباع الديانات الأخرى من موقف عن المسلمين هناك. والدين ثقافة، وبروز دين جديد، أي دين، لا بد أن يتأقلم مع كثير من الممارسات الثقافية السائدة في محيطه.
وهذه ظاهرة أو ملاحظة بارزة لأي دارس للأديان وأطرها وسياقاتها الخطابية في جنوب شرق آسيا بصورة عامة والهند وسرنديب بصورة خاصة. كثير من الممارسات الثقافية، إن كانت رموزا أو مواقع محددة يحتفظ بها المتحولون إلى ديانة جديدة، مع إضفاء مسحات كي توائم الظاهرة المقبلة. في طريقي إلى مدينة كاندي في سرنديب، وهي من أجمل وأسحر المناطق التي زرتها في حياتي، توقفنا عند جبل كي نلقي نظرة على أثر قدم يقال إنها تعود لآدم عند هبوطه من السماء. وقد أطلق الرحالة العنان لخيالهم عند وصفهم هذا الأثر.
ولكن ما يهمني هو أن الأثر هذا مقدس لدى المسلمين في سرنديب ومعهم الهندوس والبوذيين وأتباع الديانات الأخرى أيضا.
وما لاحظته أيضا في الدولتين هو الحب الجم الذي يظهره ليس المسلمون فحسب بل الهندوس والبوذيون أيضا لحلقات الذكر والتصوف وأشعار وأناشيد ونصوص الزهد والنسك لدى المسلمين.
يحصد منشدو هذه الأشعار من المسلمين وباللغات المحلية أعلى المراتب في سلم السباقات والمشاهدات على مواقع التواصل الاجتماعي.
ولن أنسى موقفا أثر فيّ أيما تأثير، وأنا واقف مع مجموعة كبيرة من الهندوس في أحد معابدهم في ضواحي نيودلهي، وهم يصفقون بحرارة ويرددون خلف منشد كث اللحية، وهو يتغنى بأشعار على آلة تشبه البزق.
وما استرعى انتباهي أنه كان يردد كلمة "الله" مرارا في أناشيده وأحيانا "محمد". سألت مرافقي: "من يكون هذا". قال: "منشد مسلم يحبه الناس هنا كثيرا". التقيته وبادرني بتحية "السلام عليكم" وبالعربية. اندهشت، ليس لموقف التسامح والقلب الكبير الذي يملكه - لأن هذا ليس بغريب على مسلمي جنوب شرق آسيا بصورة عامة - بل لأنه كان ملما بقصائد أبي العتاهية وغيره من شعراء النسك والزهد والتصوف في الإسلام.
قلت له هل يبادلك الآخرون هذا الموقف، قال: "نعم. ألم تر عشقهم وحبهم لهذه الأناشيد؟ نحن في إمكاننا أن ندخل بيوتهم وقلوبهم وهم في إمكانهم أن يدخلوا بيوتنا وقلوبنا".
لذا، لم أتصور ولو للحظة ولن أصدق أن تكون الجريمة الشنيعة ومقترفوها في سرنديب جزءا من إرهاب منظم ذي جذور محلية. ويبدو أن التحقيقات حتى الآن تؤيد ما ذهبت إليه.

إنشرها