الثورة الصناعية الثالثة .. نهاية الرأسمالية العملاقة

الثورة الصناعية الثالثة .. نهاية الرأسمالية العملاقة

يعد جيريمي ريفكن؛ الأكاديمي الأمريكي المتخصص في الاقتصاد وعلم الاجتماع، واحدا من الأسماء المرقومة على الصعيد العالمي التي تحتفظ بتفاؤلها المطلق حيال التطورات التي تشهدها الحياة المعاصرة. وهو ما دافع عنه بشدة؛ من موقعه، كمختص ومستشار لدى عديد من الحكومات الأوروبية "الاتحاد الأوروبي، ألمانيا، فرنسا، إيطاليا...". وخلفت آراؤه صدى كبيرا في الأوساط السياسية لدول أوروبية، من ضمنها فرنسا التي يعتمد عليها حاليا في النقاش الدائر بشأن التقليص من ساعات العمل.
يعِد صاحب نظرية "مجتمع التداخل" عالمنا يعيش منذ عقود على وقع "ثورة اقتصادية"، يصفها بالثورة الصناعية الثالثة التي يرى أنها حاملة نموذجا اقتصاديا جديدا، التي تمثل الأساس الذي شيدت عليه في السنوات القليلة الماضية الثورة الصناعية الثالثة التي يهيمن فيها الذكاء الاصطناعي. إنها ثورة ستفتح الباب لمرحلة غير مسبوقة في التاريخ الإنساني، بما تحمله من فرص وتطرحه من تحديات.
يشهد العالم - بحسب ريفكن - ثورة ستنهي الحالة الرأسمالية العملاقة، ما سيؤدي إلى إفلاس عشرات من الشركات الكبرى. أكثر من ذلك، يتوقع كبير المنظرين في مؤسسة "الاتجاهات الاقتصادية" التي أسسها، برفقة تيد هوارد، عام 1977 في واشنطن، من أجل الرصد والتوقع والاستشراف، أن تقود الثورة التكنولوجية إلى تحقيق قوة إنتاجية غير مسبوقة في التاريخ، تنزل بالتكاليف إلى ما يقارب الصفر، ما سيجعل السلع والخدمات تقترب من المجانية أو ما يصطلح عليه "التكلفة الصفرية للإنتاج"، متجاوزة بذلك المبادلة في اقتصاد السوق.
لقد بدأت أولى آثار هذه المعادلة الجديدة؛ أي ظاهرة التكلفة الصفرية للإنتاج، تظهر بوضوح في صناعة الصحف والمجلات والإعلام بصفة عامة، إذ أصبح تدفق المعلومات والأخبار والوقائع دون مقابل. تفيد التقديرات بأن ما يقرب من نصف سكان العالم اليوم، يملكون هواتف محمولة وحواسيب ولوحات إلكترونية، ما يجعل كل واحد منهم مشروعا صحافيا في أي لحظة، بذلك تنتقل صناعة الخبر من أيدي أقلية "صحافي مهني"، لتصبح مشاعا بين الجميع "صحافي مواطن"، وهو ما عجل بإغلاق عديد من المقاولات الصحافية في العالم.
يورد ريفكن أمثلة أخرى في ذات السياق، تعزز فكرته بشأن التكلفة الصفرية، فالموسيقيون اليوم ينشرون أعمالهم مجانا عبر الإنترنت، كما أن القنوات التلفزيونية تتجه بدورها نحو الإنترنت، لا بل حتى الجامعات والمدارس والمعاهد ومراكز البحث تشق طريقها نحو اعتماد منصات تعليمية عبر الإنترنت. الجميع يتجه؛ باختلاف الدرجات، إلى مجانية المعرفة، والمنتجات كلها ستكون بقيمة إنتاجية أساسية قريبة جدا من الصفر.
دون استغراق في التفاصيل، يؤسس ريفكن أطروحته على فكرة مفادها أن اكتشاف منظومة طاقية وتكنولوجيا اتصالات جديدة، يؤدي إلى تحول جذري في الاقتصاد، وينشئ شبكة علاقات قيمية وإنسانية. وفق هذا المختص المتفائل جدا بمستقبل البشرية، تتميز كل ثورة صناعية بآليات جديدة، ومصدر جديد للطاقة، ونمط جديد من أنماط الاتصال. لذلك فالثورة الصناعية الثالثة ليست إلا نتيجة اقتران أنظمة الإعلاميات، باستخدام الطاقات المتجددة، والشبكات الاجتماعية باعتبارها وسائل الاتصال الجديدة.
يمثل هذا التغيير الجذري في شكل الطاقة ووسائل النقل وتكنولوجيا الاتصال، الركائز الثلاث التي يقوم عليها التحول الاقتصادي الذي يبشر به الرجل منذ عقود. وقد فصل أطروحته هذه في كتاب سماه "الثورة الصناعية الثالثة" 2012؛ معبرا بأن هذه الثورة تحمل إجابة عن إشكالات الأمن الطاقي والتغير المناخي والأزمة الاقتصادية العالمية.
ينظر ريفكن إلى الأزمة الاقتصادية العالمية كإعلان عن نهاية مرحلة وبداية أخرى جديدة، فالعالم من منظوره انخرط في عهد اقتصادي جديد تتلاقح فيه الطاقات المتجددة والتواصل الرقمي والمحركات الكهربائية من أجل إيجاد اقتصاد جديد، وإعادة إحياء فاعلية الفرد. وبالحس التبشيري بالمستقبل نفسه، يعد "الإنسانية تمر اليوم بفجر تجربتها العظيمة منذ بداية التاريخ: إعادة تشكيل وعيها حتى يتمكن البشر من مساعدة بعضهم بعضا للازدهار في مجتمعهم العالمي الجديد".
باختصار، إننا أمام تغيير راديكالي، يحطم جدار الحماية لكثير من المؤسسات الاقتصادية، وينهي النمط التقليدي للمجتمعات والمنظومة العامة على هذه الأرض. فهذه التكنولوجيات الثلاث؛ تكنولوجيا اتصال جديدة لإدارة النشاط الاقتصادي بمزيد من الفاعلية، ومصادر جديدة للطاقة لزيادة فاعلية النشاط الاقتصادي، وإحداث وسائل جديدة للتنقل والنقل والإمداد، من أجل نقل النشاط الاقتصادي بكفاءة أكبر، تحمل براديجما جديدا في تاريخ الإنسانية.
لا يتوانى هذا المختص، في معرض الترويج لأفكاره، حيث يقدمها بنوع من الوثوقية المطلقة؛ فـ"التوزيع الشامل للطاقة المتجددة، والسلطة الأفقية يشكلان الوسيلة الوحيدة للخروج من الأزمة، وضمان مستقبل هانئ للأجيال القادمة". انتقاد الاقتصاد القديم المعتمد على مصادر الطاقة الأحفورية التي "أثرت سلبا في كيمياء الأرض، وحالت دون استفادتنا الكاملة من حرارة الشمس.. إننا ندفع فاتورة مائتي عام من الثورة الصناعية السابقة".
يحتفظ اسم جيرمي ريفكن بمكانته بين كبار المتخصصين في الاستشراف الاقتصادي والعلمي، من خلال قدرته على الجمع بين التنظير الفكري، والعمل الميداني والاستشارة العالمية في مواضيع تمثل تحديات تؤرق بال الإنسانية جمعاء، فهي تمثل مستقبل الحياة على كوكب الأرض؟
لكن هذا لن يحول دون مواجهة أطروحة الرجل، في الشق الاقتصادي منها على وجه الخصوص، أما الجانب الاجتماعي فتلاحقه أسئلة تقض المضاجع والعالم بالكاد يقطع أولى المراحل في درب الرقمنة. فما الضمان لحيادية شبكة الإنترنت بينما كل العالم في اتصال دائم؟ ثم ما الضمانات المتاحة؛ أو على الأقل الممكنة، لعدم استغلال الحكومات للشبكة من أجل أغراض سياسية؟ ويبقى السؤال الأكبر كيف تُحمى خصوصية البيانات؟ وهل من سبل لوقاية حياة واقعية تعاش/تدار في عالم افتراضي من الجرائم والإرهاب والحروب الإلكترونية؟... أسئلة تتجاهل كتابات ريفكن مجرد التفكير فيها، وبالأحرى أن تكون لها المقدرة على تقديم إجابات لها.

الأكثر قراءة