المدن الذكية .. فكرة تطرح ملاحظات وتساؤلات عديدة
المستقبل ليس فقط واعدا بل هو مشرق إلى درجةٍ تُعمي الأبصار، هذا إذا اقتنعنا بالضجيج الإعلامي حول فكرة "المدن الذكية". يشاع أن بيل جيتس سيبني مدينة ذكية من الألف إلى الياء في ولاية أريزونا، تشتمل على مركبات ذاتية القيادة. كذلك تحاول جوجل تنفيذ تجربة في التخطيط الحضري في إحدى ضواحي تورونتو.
يجري تبني فكرة المدن الذكية في أنحاء العالم كافة، ولا سيما حيث تكون أعداد السكان آخذة في الزيادة بشكل سريع؛ في بلدان مثل الهند والصين وأجزاء من إفريقيا. على الأقل نظريا، تتشارك تلك الخيالات الحضرية الميزة الجمالية نفسها التي تميز أعمال فريتز لانج الفنية: ناطحات سحاب مصنوعة من المعدن، وطرق سريعة فارغة بشكل مرض، ومناظر طبيعية جذابة، وأنظمة إضاءة تجعل المدافعين عن البيئة يبكون - وعدد قليل جدا من الناس.
لوحظ الافتقار الغامض إلى وجود السكان وسط هذه الصور الجذابة من قبل جماعة مختصة بالحقوق المدنية ذات فكر حاد في نيودلهي. في وقت سابق من هذا العام، نشرت "شبكة الإسكان وحقوق الأرض" تقريرا لتقييم كيفية تعامل الهند مع تعهدها الذي أطلقته في عام 2015، المتمثل في بناء 100 مدينة ذكية من هذا القبيل بحلول لعام 2020.
وسط ملاحظاتها اللاذعة هناك بعض النقاط التي توحي "بأنه لا توجد صورة يبدو أنها تجسد الأحياء التي يسكنها أناس من ذوي الدخل المختلط، والسكن الاجتماعي، والباعة المتجولين في الشارع، والأمن بالنسبة للنساء والأطفال" ولا حتى بقرة هائمة، التي هي من أكثر المخلوقات التي تعوق حركة المرور في الهند. إن لم يكن هناك مجال لاستيعاب الفقراء، بحسب ما تذكر مجموعة الناشطين، إذن لمن تبنى هذه المدن الذكية؟
يشير المصطلح إلى مدينة متصلة بالشبكات تنتشر فيها التكنولوجيا في كل مكان وتكون مترابطة فيما بينها، ويجري باستمرار جمع البيانات الفعلية، وتقديم التغذية الراجعة المتعلقة بها من أجل مساعدة السلطات على إدارة الأمور بشكل أكثر سلاسة وأكثر استدامة. مثلا، قد يعني المصطلح قيام مسارات الطرق السريعة بتبديل الاتجاهات لاستيعاب أزمات ساعة الذروة. وقد يتم تخفيف إضاءة شبكات الإضاءة العامة عندما تتعقب أجهزة الاستشعار الشوارع وتكتشف أنها فارغة. ورصد التركيبة السكانية في مختلف الأحياء يمكن أن يساعد على تحديد المكان الذي ينبغي أن يتم فيه بناء المدارس والمستشفيات الجديدة. المدن الذكية هي بمثابة الأحجار الكريمة المتصورة للحداثة، حيث تلبي البراعة التكنولوجية مستوى المعيشة المأمول، بحيث تحفز بكل سلاسة النمو الاقتصادي.
مدينة دوليرا المبتكرة، في الوقت الذي لا تعد فيه من الناحية الفنية واحدة من المدن الذكية المتوخاة في الهند، التي يبلغ عددها 100 مدينة، تعطينا لمحة عن هذا المستقبل. دوليرا، في جوجورات، ينبغي أن تستفيد من الناحية النظرية من رؤية الهند المتمثلة في إيجاد ممر صناعي بين العاصمة ومومباي.
للأسف، أصبحت اللمحة بائسة في معظمها: تطوير المدينة يهدد بتهجير نحو 40 ألفا من السكان، أكثرهم من المزارعين وصيادي الأسماك من ذوي المستويات التعليمية الدنيا. ومن غير الواضح أين، أو كيف يمكنهم التأقلم مع النسخة الجديدة من مدينة دوليرا. وتستنتج مراجعة لهذه التطورات التكنولوجية في المجلة "ساينتفك أمريكان"، أن المدن الذكية تحتاج بحق إلى "تحقيق توازن مرضٍ بين الحاضر والمستقبل".
من دون الأخذ في الحسبان الحاجات المعنوية المدنية التي من قبيل العدالة الاجتماعية والخصوصية، قد ينتهي الحال بأن تصبح المدن الذكية أماكن مملة لمن يريد العيش فيها.
المدينة الحضرية المشرقة التي أتقنت فن تدفق حركة المرور المتكيفة مع الظروف ربما تكون، من نواح أخرى، مكانا مصمما للتعاسة بشكل غير مقصود. لو أننا فقط أخذنا البيانات الواردة من السكان المقيمين في تلك المدن في الاعتبار، هل سيعمل هذا على تضخيم التفاوت بين الذين يملكون والذين لا يملكون رقميا؟ إن تم تزويد كل عمود إنارة ولافتة في الشارع بأجهزة استشعار، ماذا يعني ذلك بالنسبة لموضوع الخصوصية وعدم الكشف عن الهوية؟
إدراج المزيد من البيانات، في حد ذاته، لا يمكنه أن يجعل الحياة أفضل من تلقاء نفسه. بعض التحديات التي تواجه المناطق الحضرية هي تحديات اجتماعية أو سياسية بطبيعتها، وليس بالضرورة أن يكون بإمكان التكنولوجيا إيجاد حل لها. يستطيع ناريندرا مودي أن يحلم بوجود مراكز اقتصادية جديدة، لكن نحو 84 في المائة من سكان المدن الحالية في الهند لا يحظون بإمكانية الحصول على تواليت.
فكرة أن المجتمعات يمكن تأسيسها وفق التكنولوجيا فقط تجد صدى موحشا في الصين، حيث لا تزال بعض التجمعات السكنية الجديدة المتألقة بمثابة بلدات أشباح ظاهرية. لا يبدو أن جاذبية الأماكن الجديدة تغري الناس بالعيش بعيدا عن المناطق الريفية القديمة. العالم السياسي، وليام هيرست، وصفها بأنها "مدن جوفاء"، مصممة من دون الرجوع إلى الحاجة البشرية الحقيقية. بدلا من تبني القدرة على الاتصال والكفاءة، ربما يحتاج المخططون إلى إجراء بحوث أكثر عمقا حول ما يرغب الناس في الحصول عليه فعلا من الأحياء التي يعيشون فيها.
حتى اليوم لا يزال الناس ينجذبون بقوة نحو المجتمعات القديمة، أو نحو المراكز الحضرية الجديدة التي تكون قريبة من الأحياء القديمة. لماذا تكون بعض الأماكن التي يرغب الناس العيش فيها أكثر ما يمكن مزودة بطبقات من مئات السنين، وحتى آلاف السنين، من التاريخ البشري؟ توسعت المدن التاريخية مثل لندن ونيودلهي بشكل عضوي، بحيث وجدت نوعا ما مكانا لكل الفئات، الفقراء والأغنياء في آن معا. لا يزال الأجانب يتوافدون على المدن لتحقيق الشهرة والمال.
قد تبدو المدينة العالمية ذات أسعار عالية للغاية، وقذرة، وأحيانا تتعطل بسبب الأبقار الضالة - لكن خلافا للمدن فائقة التكنولوجيا التي تخرج إلى حيز الوجود اليوم، تبدو المدينة القديمة قادرة أيضا على توفير قابلية الاتصال التي يرغب فيها الناس فعلا.