Author

«الرؤية» و«التحول» في النظام العقلي السعودي

|

في كتابه "اغتيال العقل" يقول المؤلف برهان غليون أستاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون في العاصمة الفرنسية باريس إن العقل نظام مركب ومكتسب، وهو مرتبط بثقافة تعكس الشروط الاجتماعية والتاريخية التي أنتجتها والإشكاليات التي صاغتها، ومطل بالضرورة على ما يمكن أن نسميه مبادئ التفكير العقلي الواحدة أو المشتركة في كل الحضارات، وبالتالي فإن ظهور حضارة جديدة، أو بالأحرى تطور الحضارة يقود إلى تبدل في مفهوم العقلانية.
ونظام العقل الذي يحدد العقلانية "المعقول واللامعقول" كما يقول المؤلف يتكون من جملة من المفاهيم الراسخة المترابطة والمرتبة حسب أولويات ومراتب، وهي تختلف من مجتمع إلى آخر حسب ظروف ومعطيات المجتمع التي شكلتها، وبالتالي فإن كل مجتمع لديه "عقل" يميزه عن "عقل" المجتمع الآخر في استيعاب الواقع الموضوعي وتمثله، أي تنظيمه، ولذلك فإن جميع التيارات الفكرية في أي مجتمع، ومهما كان اختلافها وتناقضها، تشارك مجتمعة في مفاهيم أساسية وتنطلق منها في كشف الاتساق في الواقع واستيعابه والتعامل معه.
ويبين المؤلف بقدر ما ينجح نظام العقل للمجتمع في ترتيب مفاهيمه أو تحويرها عندما يتبدل الواقع جزئيا في سياق المدنية ليحتفظ بالمطابقة بين محتواه والواقع الفعلي فإنه يستمر في استيعاب الواقع والتأثير فيه، وإذا لم يستطع ذلك خصوصا إذا كان التبدل كبيرا وشاملا يصبح نظام العقل بالنسبة للعقلانية السائدة بائدا وباطلا لا قيمة له، ولا قدرة له على استيعاب الواقع والتأثير فيه، ويتطلب إعادة ترتيب المفاهيم من جديد بالتحرر من كل نظام عقلي سابق وكأنه ينطلق من نقطة الصفر ليبني نظام عقل جديدا من الخبر الذاتية والتجربة، وفي هذه الحالة تصبح للممارسة الأهمية الأولى في عملية تنظيم عناصر العقل وتأسيس العقلانية الجديدة.
وحيث إن الأمر كذلك فلا بد أن نقر أولا أن نظام العقل السعودي الذي تشكل خلال العقود الماضية التي سادت فيها الرعوية، وإنفاق الدولة السخي يجب معالجته بإعادة ترتيب مفاهيمه ليستوعب الواقع الجديد ويؤثر فيه إيجابا بما يسهم في تحقيق الأهداف التنموية في الأوقات المستهدفة بأعلى كفاءة ممكنة وأقل هدر محتمل.
ولا شك أن مهمة إعادة بناء نظام العقل السعودي بإعادة تشكيل جملة المفاهيم الأساسية المحركة للوعي والموجهة له ليست عملية بسيطة وتتطلب جهودا كبيرة وحثيثة في بيئة قانونية حازمة ترتكز إلى مؤشرات وأدلة دقيقة، ولا شك أن ما تضمنته "الرؤية" من مفاهيم جديدة، وقيم حاكمة، وأهداف واضحة، وبرامج تنفيذية مدروسة، وما تلا ذلك من تطبيق حازم للمفاهيم سيعجل في نجاح عملية بناء نظام العقل السعودي الجديد القادر على استيعاب التبدل في الواقع السعودي خصوصا لجهة التبدلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومن ثم إعادة تشكيل المعقول واللامعقول، وبناء المواقف والاتجاهات والسلوكيات الداعمة لـ"رؤية 2030" وبرامجها التنفيذية.
وكي نسرع في عملية بناء نظام جديد للعقل السعودي من خلال بناء منظومة جديدة من المفاهيم كي نحشد جهود وطاقات الموارد البشرية الوطنية نحو تحقيق الأهداف التنموية في الأوقات المستهدفة وكي نخفف من المقاومة المتوقعة للتحولات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية المقبلة لا بد لنا من جهود اتصالية من خلال وسائل التواصل وآلياتها كافة بشكل مدروس ومستمر للتهيئة أولا من خلال إثارة الاهتمام والتساؤلات ومن ثم ضخ الرسائل والإجابات بشكل مكثف لتغيير منظومة المفاهيم وترتيب أولوياتها بالعقل السعودي ليفهم الواقع ويؤثر به إيجابا.
وكلنا يعلم أن تشكل المفاهيم والتأكد من جدية القيادة رعاها الله في تطبيقها يتطلبان العمل وبشكل متزامن في مسارين الأول تنفيذي والآخر اتصالي، ولا شك أن قرار خادم الحرمين الشريفين بتشكيل لجنة عليا برئاسة ولي العهد تقوم بمهمة حصر المخالفات والجرائم والأشخاص والكيانات ذات العلاقة في قضايا الفساد العام، والتحقيق، وإصدار أوامر القبض، والمنع من السفر، وكشف الحسابات والمحافظ وتجميدها، وتتبع الأموال والأصول ومنع نقلها أو تحويلها من قبل الأشخاص والكيانات أيا كانت صفتها، واتخاذ ما يلزم مع المتورطين في قضايا الفساد العام واتخاذ ما تراه بحق الأشخاص والكيانات والأموال والأصول الثابتة والمنقولة في الداخل والخارج وإعادة الأموال للخزانة العامة للدولة وتسجيل الممتلكات والأصول باسم عقارات الدولة، وما تبع ذلك من أوامر إيقاف لعدد من المتهمين في قضايا الفساد بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية سيكون له أكبر الأثر على المديين المتوسط والطويل في إعادة تشكيل المفاهيم في العقل السعودي.
نعم قد يعيش الكثير منا اليوم في حالة عدم اتزان فكري، بل في حالة عدم تصديق من سرعة تطبيق مبادئ "الرؤية" خصوصا فيما يتعلق بالحوكمة وما تنص عليه من مساءلة لكائن من كان لأثر ذلك الكبير في رفع الكفاءة والحد من الهدر، وفي تحسين البيئة الاستثمارية لتوطين الأموال المحلية واستقطاب الأموال الخارجية، ولكن ما لبث الجميع حتى بدأ يستوعب أسباب ذلك وآثاره المستقبلية الإيجابية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بل حتى السياسية حيث تكون بلادنا أكثر قوة وتأثيرا كلما كانت قوية من الداخل باقتصادها وبكفاءة ومهارة مواردها البشرية، وبقدرتها على استثمار الموارد كافة بأعلى كفاءة ممكنة.
ختاما من وجهة نظري أن تطبيق مبادئ ومفاهيم «الرؤية» ومن ذلك الحوكمة وما تعنيه من مساءلة ستحمي الاقتصاد والمجتمع وتتصدى للفساد الإداري والمالي المبدد للثروات بما في ذلك الثروة البشرية التي كانت تعاني نظاما عقليا لا يتواءم مع التحديات القائمة والمقبلة.

إنشرها