الملكية الفكرية بين الاحتكار والابتكار وقوانين المنافسة
تسعى الدول، لا سيما الدول الصناعية، للموازنة بين فكرة الاحتكار وميزة الابتكار، ويواجه هذه الموازنة مجموعة من التحديات التي تسعى تلك الدول لمواجهتها وتجاوزها من طريق طويل من الدراسة والتجربة والتطوير. ولعلي في هذه المقالة أشير لهذه الجزئية بعرض بسيط مع التمثيل بمثال.
تمتاز الملكية الفكرية ـــ وقد تكون سلبية من وجهة نظر آخرين ـــ بكونها تعطي حقوقا خاصة حصرية لأصحابها للتمتع بمزايا هذه الحقوق والانتفاع منها ماديا ومعنويا، وتختلف الدول في مدة هذه الحقوق. لكن أحد أهم الجوانب التي يدور ربما حولها النقاش أن الملكية الفكرية بحقوقها الحصرية توجد احتكارا لأصحابها، تسعى الدول بشكل مجمل لمحاربته. فمثلا عندما يقوم شخص أو شركة باختراع مخترع جديد ويحصل فيه على براءة اختراع، فإن حق براءة الاختراع يعطيه حقا حصريا في استغلال هذا الاختراع وبيعه أو تأجيره أو الترخيص للغير باستعماله، ويحق له مقاضاة أي شخص يستغله دون إذنه وفقا لشروط معينة. وقبل أن أكمل أحب أن أشير إلى أن كلمة احتكار قد يساء استخدامها كثيرا في وصف أي نجاح أو صعود لشركة ما بالاحتكار أو وصف ربما عدد من الشركات بالاحتكار، ولعلي أفرد لهذا مقالة بحول الله تعالى. إن هذا الحق الحصري لمالك الاختراع، وإن كان قد يمثل نوعا من الاحتكار في ظروف وليس بالضرورة في كل الأحوال، في حالة عدم حماية مثل هذه الحقوق ومنحها نوعا خاصا من التعامل نسبيا من حيث قوانين المنافسة، فإنه قد ينتج عنه قتل أو كبح جماح الحافز في الاستثمار في الابتكار والبحث العلمي والتطوير في المنتجات والخدمات على الأصعدة كافة. فلن يكون هناك حافز لشركة مثلا أن تدفع المليارات لتحسين منتج معين أو دعم بحوث وتجارب معينة لابتكار منتج، وبعدها يكون لكل شخص ولكل شركة أن تستفيد منها دون مقابل ما يثير مسألة المنتفعين بالمجان. ولذلك نجد أن هذا الحافز عندما يقتل فإن المتضرر الأخير هو المستهلك إضافة لكونه يؤثر في الإنتاج بشكل عام. وهذا التحليل السابق للفقرات الثلاث وما قبلها مستلهم من التوجه الأمريكي لهذا المفهوم ويتفق معه كما يظهر من خلال الإرشادات التي أصدرتها فيما يتعلق بحقوق الملكية الفكرية.
في المقابل تسعى الدول الصناعية في الوقت نفسه إلى مراقبة حقوق الملكية للتأكد من أن مالك أو ملاك براءات الاختراع لن يقوموا باستغلال حقوقهم من خلال احتكار أسواق أخرى أو من خلال ممارسات احتكارية ضارة للسوق ومضرة بالمنافسة. ولعلي أستعرض مثالا من سوق الأدوية التي تعتبر إحدى الأسواق الضخمة في الدول الصناعية والدول المنتجة.
في يناير الماضي من هذا العام 2017 أعلنت مفوضية التجارة الفيدرالية الأمريكية على موقعها عن عرض التسوية بخصوص اتهام المفوضية لشركة مالينكرود، إحدى شركات الأدوية، أنها خالفت قوانين المنافسة الأمريكية، وذلك من خلال شراء الشركة لترخيص باستعمال عددٍ من حقوق الملكية الفكرية لدواء معالجة حالات النوبات التي تصيب الرضع، والسبب وراء ذلك أن تحمي الشركة أي تهديد على دواء آخر تملكه الشركة سابقا. فقد رفعت الشركة سعر علاجها من 40 دولارا عام 2001 لكل علبة إلى 34 ألف دولار للعلبة أي بزيادة قدرها 85 ألفا في المائة. لذلك تم الاتفاق على تسوية الاتهامات بموافقة الشركة بدفع 100 مليون دولار والترخيص للغير باستعمال مجموعة من حقوق الملكية الفكرية للعلاج.
الموضوع له تشعبات طويلة فهذا المثال لم يخل من اختلاف وجهات النظر حتى من المفوضية. وفي كل الأحوال، أردت من هذه المقالة أن أؤكد أن قوانين المنافسة ينبغي أن تكون قوانين مبنية على أهداف وسياسات واضحة وأن تكون داعمة لتلك الأهداف ومن تلك الأهداف حماية المستهلك وفي الوقت نفسه دعم الابتكار والإبداع للشركات وعدم وضع قيود ليس لها غاية واضحة تخدم الأهداف المرسومة.